تنتابنى مشاعر مختلطة من الفخر والأسى عندما أسمع نقادا آخرين يتحدثون عن موضوع الاقتباس فى السينما المصرية بأنه مصدر الفخر لأن ما بلغته من معرفة فى هذا الأمر لم يصل إليه أحد. وفى بعض الأحيان ينقل النقاد المعلومات فى كتابتهم أو أحاديثهم بأخطائها التى يتم توريثها كما هى، ولعل أشهر تلك الأمثلة هو مسرحية (مدام إكس) للكاتب الفرنسى ألكسندر بيسون 1908، أى إنها عمل فنى قد يكون وصل إلينا فى شكل عرض سينمائى فرنسى، خاصة فى زمن السينما الصامتة، لأن المسرحيات الفرنسية لم تتم ترجمتها فى كتب مثل الروايات، هذا العمل الفنى شغف به عشاق الميلودراما فى مصر خاصة الذين يتحدثون الفرنسية وقدموه ثلاث مرات فى فترات متقاربة، بأسماء مختلفة ومعالجات كثيرة بها إضافات من كاتب السيناريو، هذه الأفلام هى: «المتهمة» تأليف وإخراج هنرى بركات 1942، ثم المرأة المجهولة إخراج محمود ذو الفقار عام 1959 و«ضاع العمر يا ولدى» إخراج عاطف سالم 1977، وأعتقد أن التهافت على هذا النص كان سببه أن الممثلة التى تؤدى شخصية الفتاة التى ضاعت بسبب شكوك زوجها وأمه قد صنعت دراما مثيرة وجعلت من الفنانات الثلاث اللائى جسدن الدور وهن آسيا داغر وشادية وشهيرة فى أحسن أحوالهن، خاصة شهيرة التى كانت تبحث عن دور فدفعت زوجها ليقدمها فى فيلم من إنتاج شركتهما.
كما نرى فإن سمة المسرحية التى تتحول إلى فيلم أقرب إلى تحرر السجين من الزنزانة وانطلاقه إلى عوالم واسعة للغاية، وقد حدث هذا بالفعل فى «مدام إكس» والجدير بالذكر أن كل هذه الأفلام كانت مصنوعة للنجمة رغم وجود رجال عباقرة فى التمثيل أمامها مثل ذكى رستم أمام آسيا، وعماد حمدى وكمال الشناوى وشكرى سرحان أمام شادية، ومحمود ياسين ومحمود عبدالعزيز أمام شهيرة وحسب الفيلم الأول فإنه يدور حول أن سبب طرد الزوجة من البيت هو وقيعة نسائية بسبب صراع بين رجل العصابات (عثمان برعى) ووكيل النيابة (كامل). أما فى الفيلم الثانى فإن الحماة تدبر الخطط لتقلق ابنها من زوجته المخلصة وإيهامه بأنها تخونه وتشكك فى أبوته لابنها الصغير، هذا الابن الذى سيكون محور الجزء الثالث من الفيلم، أى على السنين أن تمر قاسية فى حياة تلك المرأة التى يطلقها زوجها وتختفى أخباره مع ابنه، وتتجه هى مع صديقة لها للعمل فى البارات كمغنية أو كعاهرة يدير أعمالها عباس الفتوة الذى كان سببا فى انفصالها عن زوجها، وتدور أحداث منتصف الفيلم حول الرجال الذين يدورون فى فلك تلك المرأة، حيث يظهر عباس ويختفى من وقت إلى آخر بعد أن يبتزها ليأخذ ما لديها من أموال، وفى إحدى هذه الزيارات يقتل عباس صديقتها ويهددها بأنه سوف يبلغ زوجها السابق بأمرها وفى لحظة من أشد لحظات حياتها توترا ودفاعا عن كل شرفها الذى ضاع بسبب عباس فإنها تطعنه بقوة حتى يموت، وهنا يأتى الجزء الثالث والأخير من الفيلم وأيضا الفصل الثالث من المسرحية ومن مآسى القدر أن الشاب الذى تطوع للدفاع عن تلك المرأة التى حطم الزمن كل ما فيها هى أمه الحقيقة حيث تربى على أن أمه قد ماتت وأن أباه ظل وفيًا لهذه الراحلة حتى الآن، لا فإن جلسات المحاكمة تظل هى الأكثر توترا داخل الفيلم، وعلما بأن فترات الأربعينيات كانت هى الذهبية لمثل هذه المشاهد حيث يقوم أب بالدفاع عن ابنته التى أخطأت مع رجل عابر فى فيلم «هذا جناه أبى» فما يدور فى قاعة المحكمة يناسب جدا إيقاع المسرح حيث يعتمد الحدث على الحوار البليغ بين أشخاص قد يلتقون لأول مرة لكن روابط قوية تربطهم منذ زمن طويل، فالابن لا يعرف هوية أمه أما الأب فهو لا يريد أن يبوح بالحقيقة إلا بعد أن يتأكد أن هذه المرأة كانت ضحية لرجال كثيرين منهم عباس ومنهم هو نفسه كزوج، حيث عاشت معه فترة قصيرة تكللها السعادة والعاطفة الصادقة، أى إن هذه المتهمة الجاسية خلف القضبان ظلت مجهولة فى حنايا الحياة يشكل لها عباس جانبا أسود، وما هى الآن سوى حطام أى أنها حصاد لكل تلك المسيرة التى عاشتها.
هكذا بدا بركات أول حياته فى الفترة التى آمنت به آسيا وأتت به من لبنان ليكون عوضا عن الثنائى مارى كوينى وأحمد جلال، وكان رهانها مطبوعا بورق الدمغة حيث ظل بركات يخرج لها أفلامها كمنتجة وممثلة، ولعل أبرزها هو أمير الانتقام.