أعتقد أن جانبًا كبيرًا مما يجهد الأدباء والفنانون أنفسهم فى تقديمه للناس لا يشعر به أحد، وهذا فى رأيى هو مأساة المبدعين فى مصر، ويمكن ملاحظة الأمر فى كل أوجه العمل المتصل بالكلمة المقروءة، صحافة أو أدب، وكذلك الفنون كالسينما والمسرح والموسيقى. إن المبدع الحقيقى فى بلدنا يشقى فى رحلة البحث عن التميز والجدة والطرافة والعمق، وفى النهاية لا يصل ما ينتجه إلا إلى حفنة قليلة من المتلقين، وهم فى الغالب مثله من المشتغلين بالفن أوبالكتابة أو من الجمهور الأكثر وعيا وثقافة. وتحضرنى خبرات وتجارب أكدت لى على مدى العمر أن عددًا قليلًا لا يتجاوز فى أحسن الأحوال ثلاثة آلاف من المصريين (بعد استبعاد الهتّيفة والمزايدين وكذابى الزفة) هم المستهلكون للقصة والرواية والفيلم الجاد وديوان الشعر والمقال الصحفى الحلو. المبدع فى بلدنا يشعر بالبرد، بالوحدة وكثيرًا ما يلتحف بتيار سياسى له بعض الأنصار ليس لأنه يؤمن بأفكاره، لكن حتى يضمن وجود جمهور لقصيدته أو فيلمه أو كتابه، ويتبدى هذا كثيرًا فيما يخص اليسار أو الناصريين الذين يتصورون دائمًا أن كل المبدعين هم بالضرورة ضمن فصيلهم، ويلاحظ أن المبدع فى بلدنا يترك هذه الأفكار والشائعات تسرى ولا يعارضها أو يصححها أو يدلى بتصريح صحفى يوضح فيه موقفه الحقيقى من قضايا الوطن خشية أن يكون فى هذا الموقف ما يقطع صلته بالجمهور الذى يرتكن إليه، وقد صادفتُ أكثر من مرة فى جلسات خاصة بعض الفنانين والمشتغلين بالكتابة الذين يظنهم الناس من عتاة الناصريين المخلصين لمبادئ الزعيم، ورأيتهم على حقيقتهم يسخرون من الزعيم ومن نضاله، كما يسفهون المقاومة فى لبنان وفى غزة، مع أنهم كثيرًا ما خرجوا زمان فى الوقفات والتظاهرات ملتحفين بالكوفية الفلسطينية التى جلبت لهم بعض المعجبين الإضافيين!
كنت أجلس ذات يوم مع الأديب الراحل إسماعيل ولى الدين وكان سعيدًا بفيلم حمام الملاطيلى الذى كان يعاد عرضه وقتها فى إحدى سينمات عماد الدين وذلك بعد عرضه الأول بخمسة عشر عامًا. ذكر لى أن أفلام صلاح أبوسيف لم يحقق أى منها مثل هذا النجاح الذى عزاه إلى جودة الرواية التى اتكأ عليها الفيلم. لم يعجبه ردى بأن هذا النجاح الساحق سببه مشاهد الجنس التى ملأ بها أبوسيف فيلمه، ربما لأنه زهد فى الإشادات النقدية التى احتفت بأفلام مثل «بين السما والأرض» و«القاهرة 30» و«الزوجة الثانية»، بينما خلت مقاعد السينما من الجمهور فى تلك الأفلام المهمة، وربما أنه تاق إلى النجاح الجماهيرى الذى يأتى ومعه المال أيضًا! وإذا كان يوسف شاهين قد عاش عمره يفخر بفيلم باب الحديد ويظنه تحفة فنية فإن ما دعا الجمهور لمشاهدته هو وجود ملكة الإغراء هند رستم وملك الترسو فريد شوقى، أما حدوتة قناوى المجنون التى يتصورها شاهين قمة العبقرية فيمكن حذفها ببساطة دون أن يتأثر الفيلم وشباك التذاكر! وربما أن مثل هذه الحقيقة هى التى دعت المخرج داوود عبدالسيد عندما أقدم على إخراج رواية «مالك الحزين» لإبراهيم أصلان إلى تغيير الاسم إلى الكيت كات، وذلك حتى يتصور جمهور السينما أنه يقدم فيلمًا تجاريًا خفيفًا يداعب قاعدة الترسوعلى طريقة أفلام «الدرب الأحمر» و«الباطنية» و«فتوات الحسينية» فيُقبلون على مشاهدة الفيلم! وأظن أن هذا ما يمنع سينمائيين مبدعين من تقديم أفضل ما لديهم فيطوون أدراجهم وجوانحهم على أعمال بديعة، ويكتفون فقط بتقديم ما هو فى الإمكان، ويبدو أن السينما قد أصبحت هى الأخرى مثل السياسة.. فن الممكن!
وإن شئنا الدقة فى هذا السياق فإن المشكلة الحقيقية هى تدنى مستوى المتلقى بعد انهيار التعليم وتواضع مستوى المتعلمين، فالأجيال الجديدة أصبح يستوى فيها الجاهل وخريج الجامعة، فالاثنان لهما نفس الذوق فيما يقدم من فنون، وهى حالة لم تكن موجودة فى السابق، ويمكن ملاحظة هذا فى الإقبال على أغانى المهرجانات بشغف عظيم، وفى أى عرس حديث سواء كان العريس وعروسه من الطبقات الموسرة أو من الطبقة المتوسطة أو حتى أن يكون الفرح فى حى عشوائى لعروسين غلابة فإن الأغانى الهابطة تكون هى الأصل فى إحياء الليلة، ومن الضرورى أن تجد العريس وأصدقاءه والعروس وصديقاتها حافظين لكل الأغنيات الخشنة الحِرشة التى يضعها الدى جيه، ومن الضرورى أيضًا أن تقوم العروس بتقديم وصلات راقصة متصلة بعد أن تم الاستغناء عن الراقصة التى كانت تحيى الأفراح فى السابق، وحتى إن أحضروا واحدة فإن دورها يكون محدودًا وهو التخديم على الراقصة الأصلية (العروس) ومساعدها (العريس).
هذا كله تعبير عن انهيار تعليمى وثقافى شامل على كل المستويات، ما يجعل أى جهد إبداعى مخدوم هو حرث فى الماء، وأنا هنا لا أتحدث عن قراءة لوحة فى معرض فنون تشكيلية والتوحد مع مفرداتها، أو حضور عرض أوبرالى عالمى أو الاستماع إلى عزف موسيقى سيمفونى، فهذه الاشياء بطبيعتها قليلة الجمهور، إنما أتحدث عن الأعمال الفنية والأدبية العادية التى يخشى مبدعها ألا تصل إلى الناس، ولهذا فقد يتطرف فى بعض الأحيان ويحاول أن يوحى للجمهور بأنها مُسفّة مثلما فعل صلاح أبوسيف فى فيلم حمام الملاطيلى ليضمن الحضور الجماهيرى، ومثلما فعلتُ أنا شخصيًا فى اختيار بعض عناوين كتبى، وذلك حتى يتصور القارئ أنها تافهة فيشتريها!