أمعنت تل أبيب فى التنكيل اليومى بالفلسطينيين، وغضت غالبية دول العالم الطرف، عن الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على المسجد الأقصى، والتنكيل اليومى والحصار وجرائم القتل واحتجاز عشرات آلاف الأسرى الفلسطينيين فى السجون والمعتقلات، وأطلقت إسرائيل يد المستوطنين ليعيثوا فسادا، تحميهم حكومة يمينية متطرفة تضم وزراء يجاهرون بأن «العربى الصالح» هو العربى الميت، فماذا كان ينتظر الجميع بعد ذلك؟
انشغل العالم بالحرب الروسية الأوكرانية، والصراع الخفى والمكشوف بين الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا مع الروس، لتستغل إسرائيل المشهد لتدعيم أركان وجودها، وتوسيع دائرة الاعتراف بها عربيا، وممارسة فعل التطبيع جهارا نهارا، لتحقيق حلم القيادة الإسرائيلية للمنطقة، بلا ثمن، فقط الحصول على مكاسب مجانية، بمباركة أوروبية وضغوط ورعاية أمريكية.
وضعت غزة تحت حصار مميت، واقتحمت القوات الإسرائيلية جنين، ونابلس، وبلدات فلسطينية عدة فى الضفة الغربية، واعتدى غلاة اليهود المتطرفين على المصلين المسيحيين فى كنائس بيت لحم، والعمل على التقسيم الزمانى والمكانى للمسجد الأقصى ومنع المصلين المسلمين من الوصول إليه، وتهجير الفلسطينيين من القدس المحتلة وهدم منازلهم، وكلما اشتكى هؤلاء لا يجدون سوى المزيد من الممارسات القمعية الإسرائيلية القائمة على القتل والحصار وفرض الأمر الواقع، وتسويق الأوهام للعرب عن سلام زائف.
فى ظل هذا الوضع، كسرت المقاومة الفلسطينية نظرية الأمن الإسرائيلية، وأذلت جيشا طالما تبجح بقدراته العسكرية والاستخباراتية التى لا تقهر، وحطمت المقاومة بهجوم مباغت برا وبحرا «وجوا» للمرة الأولى، أساطير وهمية صنعها العدو عن إمكانياته، فإذا بجنرالات يقعون فى الأسر، ومستوطنين، رغم تسلحهم، يفرون كالفئران المذعورة، تاركين مستوطناتهم الحصينة التى بنيت على حدود قطاع غزة، هربا من الجحيم الذين ظنوا أنهم غير ملاقيه يوما.
فشل استخباراتى لا يحتاج أى برهان، بعد أن قدمت المقاومة الفلسطينية كل دليل على تفوقها فى إطلاق عملية «طوفان الأقصى» التى أغرقت الإسرائيليين بآلاف الصواريخ، مئات المسلحين الذين اقتحموا أكثر من عشرة مواقع إسرائيلية داخل الأرض المحتلة المتاخمة لقطاع غزة، والسيطرة على مقار أمنية وعسكرية ومستوطنات، والعودة إلى القطاع بالأسرى والغنائم، فى وضح النهار، وأمام أعين العدو الذى وقف مشلولا من هول المفاجأة!.
أعادت عملية «طوفان الأقصى» التى جاءت غداة الاحتفال بمرور خمسين عاما على نصر السادس من أكتوبر عام 1973 إلى الأذهان الإسرائيلية، ذكرى يوم أليم، مع دخول السابع من أكتوبر 2023 التاريخ باعتباره «يوما أسود» جديدا يضاف إلى سجل الهزائم التى تنتظر الغطرسة والغرور الصهيونى فى الأفق القريب، ليتمرغ الكبرياء الإسرائيلى فى الوحل، ويجعل نتنياهو يصرخ من «أيام صعبة» بعد أن تكبد مئات القتلى وآلاف الجرحى.
سيتحدث المحللون ومراكز الأبحاث العسكرية كثيرا عن ما جرى صبيحة السابع من أكتوبر 2023، وسيقف القادة العسكريون فى كل مكان فى لحظات تأمل تغير رؤيتهم لنظريات الحروب التقليدية، وليتعلموا درسا جديدا يقول إن فئة قليلة يمكنها هزيمة أعتى الجيوش، فقط بالتخطيط والعزيمة والثقة فى النصر، وعدم الالتفات إلى دعاة الوقوع والركوع لسلام الأمر الواقع المبنى على الأوهام.
وكما حدث فى حرب أكتوبر 1973، ها هى الولايات المتحدة تسارع لنجدة إسرائيل بإرسال البوارج، والعتاد الحربى، وإجبار الحلفاء والتابعين على إصدار بيانات الشجب والإدانة لما فعلته المقاومة بجنود الاحتلال، وهى البيانات التى لم تكن لترى النور لو كانت اليد الطولى فيما جرى للإسرائيليين، على نحو ما تم فى أكثر من عدوان على الفلسطينيين فى الضفة الغربية والقطاع على مدى سنوات طوال.
بقى أن التاريخ ربما يعيد نفسه، عندما يركب الغرور الرءوس، ففى الثالث من أكتوبر قال رئيس الأركان الإسرائيلى آنذاك ديفيد إليعازر مطمئنا الصحفيين إنه «لن تنشب حرب فى القريب» وإنه بإمكانهم «النوم بهدوء»، وبعد خمسين عاما على زلزال السادس من أكتوبر 1973، قال جنرال إسرائيلى آخر للصحفيين قبل طوفان السابع من أكتوبر بأيام قليلة «اذهبوا للعيد، لن تنشب عمليات كبيرة».. وما أشبه الليلة بالبارحة.