كنت فى زيارة إلى المؤسسات الرقابية على أسواق المال الأمريكية فى العاصمة واشنطن عام 2007 ولا أنسى عبارة قالها لى أحد كبار المديرين فى لجنة الأوراق المالية والبورصة Securities and Exchange Commission (SEC) إذ أعلن بخجل عن كون السوق الأمريكية تخضع لما سمّاه «التنظيم المفرط» أو كما قال over regulated وذلك لوجود جهات رقابية متعددة منها ما يختص بالرقابة على الأعضاء من شركات الوساطة، وأخرى للرقابة على حركة التداول، وثالثة للتحقيق فى مخالفات الإفصاح.. مع ذلك فإن نجاح التنظيم فى الأسواق الأمريكية رهن باستشعار ذلك الرقيب بخطورة أن تكون الرقابة متعددة المستويات، واحتمالية تضرر المستثمر من هذا الوضع، مما يجعله شديد الحرص لدى ممارسته دوره الرقابى حتى لا يخيف المتعاملين، ويصبح فى نهاية المطاف رقيبا على لا شىء.
من الجهات الرقابية المهمة فى مختلف الأسواق التى تخضع للمنافسة وقوى السوق الحرة تلك المعنية بحماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية. تقويض المنافسة فى أى سوق من شأنه أن يضر بجهاز الثمن، يخلق اضطرابا فى آليات السوق، يضر المستهلكين، يحد من دخول منتجين جدد إلى السوق... وقد ميّز الشارع فى مصر بين الوضع الاحتكارى وبين الممارسات الاحتكارية التى من شأنها تقسيم الأسواق مثلا أو تأسيس مجموعات من شأنها التحكّم فى المعروض، أو وضع حواجز على دخول منافسين جدد. هذا التمييز الذكى يحول دون اتهام الشركة القابضة للكهرباء ــ مثلا ــ بكونها محتكرا لسوق إنتاج وتوزيع الكهرباء، يظل ذلك صحيحا ما لم تعمل الشركة على منع دخول منافسين لإنتاج الكهرباء من مصادرها المختلفة، وتقديم أسعار تنافسية للمستهلك.
خط دقيق يفصل بين إجراءات حماية المنافسة وإجراءات تقويض الاستثمار وإفساد مناخ الأعمال. الدور الرقابى للأجهزة المعنية بالحفاظ على تنافسية الأسواق فى بعض الدول الناشئة أحيانا ما يجنح بتطبيق التشريعات إلى التدخل فى سياسات البيع والشراء والتعاقدات طويلة الأجل وأعمال المؤسسات corporate actions مثل الاندماجات والاستحواذات، بما يضر بشكل عميق باستمرار تدفق الاستثمارات إلى الأسواق الطاردة والمقيدة للنشاط الحر.
***
بداية يجب أن يتمتع الرقيب فى أى جهاز رقابى بفهم عميق لطبيعة الأعمال التى يراقبها حتى لا تتحول كلمة صباح الخير إلى محاولة للرشوة، ومؤتمر لأصحاب صناعة معينة إلى محاولة لتقسيم الأسواق، وعملية استحواذ شرعية إلى ممارسة احتكارية! الفهم العميق يأتى من مصادر كثيرة أبرزها ممارسة الرقيب للنشاط الذى يراقبه قبل الانتقال إلى الطرف الآخر من المنضدة. هذا الانتقال الهادئ من شأنه أن يكسب الرقيب ثقلا وإدراكا لطبيعة السوق وتعقيداته، والتمييز بين الفساد وجهود التفوق والبقاء لأطول فترة ممكنة فى قلب المنافسة.
الرقيب الناجح مثل حكم المباراة الماهر، فلا تكاد تشعر بوجوده فى الملعب إلا عند الضرورة، ويكون تدخله إضافة إلى المباراة وتحقيقا لمزيد من النزاهة والعدالة. والرقيب الفاشل مثل الحكم المزعج الذى يطلق صافرته عند كل احتكاك بين اللاعبين، ويخرج بطاقته الحمراء بمجرد وقوع خطأ بسيط وغير مقصود. وكما تنشئ الأنظمة السياسية معارضتها التى تصطبغ بطابعها، كذلك تنشئ الأسواق رقابتها المحافظة على نموها واستقرارها. مارست أكثر من دور رقابى لدى عملى فى البورصة المصرية والهيئة العامة للرقابة المالية، وكنت مديرا عاما لإدارتى المخاطر والرقابة على التداول فى البورصة، وكان الفرق دقيقا جدا بين مخالفات التداول مثل تعامل الداخليين والتلاعب بالأسعار واستباق المعلومات من ناحية وبين تعاملات عادية نشأ عنها أثر مشابه على أسعار وأحجام التداول لأوراق مالية معينة. الخبرات المتراكمة لفريق العمل الرقابى، ودقة استخدام أدوات التحليل والتحرّى «الهادئ» عن المعاملات هى ما أفرزت عملا رقابيا يكشف هذا الفرق، يخدم جميع المتعاملين، ويبث الثقة فى نزاهة السوق، ويترجم إلى تدفقات مالية جديدة وافدة وليست هاربة من بورصتنا الناشئة.
تعلّمت من العمل الرقابى ألا أتخذ موقفا شخصيا ضد أى من المتعاملين، وألا أستبق نتائج التحقيق بافتراض فساد جميع الأطراف على سبيل الاحتياط! وأن أرى هدف نمو وتطوّر الأسواق بذات عين الحرص على نزاهتها وسلامة موقفها القانونى. بعض الرقباء يقولون بفخر: «فليذهب الاستثمار إلى الجحيم، نحن معنيون فقط بتطبيق القانون!»، وكأن هناك تعارض مزمن بين انتعاش الأسواق وبين نفاذ القانون، ولو صح الأمر لكان العيب فى القانون أو فى مطبّقيه لا فى الاستثمار.
***
الصورة الذهنية التى يرسمها الرقيب لنفسه فى مخيلة من يخضعون لرقابته، هى التى تحكم على تجربته بالنجاح أو الفشل. فإذا أراد أن يرسم صورة يكسوها العنف، والعصبية، وتوهّم احتكار الحقيقة المطلقة، فإنه بذلك يظلم جهازه الرقابى، يحوّله إلى فزاعة تضيف إلى تحديات الاستثمار شبحا جديدا يضر بمناخ الأعمال ويطرد أصحاب المال. ليس مطلوبا أن يحب الناس الرقيب، ذلك مخالف للطبيعة البشرية على أى حال، فقط عليهم أن يثقوا فى رشده وموضوعيته، وقدرته على ضبط انفعالاته، بما يسمح لهم ببناء قضيتهم فى مواجهة اتهامات ربما يبنيها جهازه ضدهم. على الرقيب أن يحسن بناء الواجهة التى يطل من خلالها على الناس، وأن يعلم علم اليقين أنه يشكّل رقما مهما فى معادلة السوق.
الرقيب يدير المخاطر، يضع الضوابط التى تسمح بمرور الفرص وتحقق العائد مع الحد من الأضرار التى يمكن أن تسببها تلك المخاطر. لكن ممارسة الدور الرقابى من خلال تجنّب المخاطر يقتل الفرص، ويمنع تحقق أى عائد إيجابى لأى من المتعاملين فى الأسواق، هو باختصار يقتل المنافسة ويغلق الأسواق. وكما يجب أن تدار المخاطر، هناك دائما آليات للحد من تغوّل الرقيب وانفراده باتخاذ القرارات التى تضر بالمنظومة المكلّف بالرقابة عليها. اللجان ومجالس الأمناء ومختلف الكيانات التى تفحص أعمال الرقيب على الأسواق وتجيز قراراته، وتلك التى تقيّم أداءه الرقابى لاحقا، يجب أن تكون على مستوى رفيع من التأهيل العلمى والخبرة العملية التى تمكّنها من ضبط إيقاع العمل، ورسم خطوط واضحة بين نصوص القانون وفلسفته (مما تم تناوله فى المقال السابق)، بين تطبيق اللوائح وتقدير تداعياتها بحكمة، «ومَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا».