المصريون بين المشاعر والعقل - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 5:47 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المصريون بين المشاعر والعقل

نشر فى : الأحد 10 أغسطس 2014 - 7:40 ص | آخر تحديث : الأحد 10 أغسطس 2014 - 7:40 ص

ما الذى يدفع المواطن إلى التصويت إلى هذا الحزب واستبعاد آخر؟ لماذا تكثر السياسات الاحتجاجية فى دولة وتخفت فى أخرى؟ لماذا تتراجع العقلانية فى المشهد السياسى فى هذا البلد أو ذاك؟ ما الذى يجعل لقائد معين كاريزما وحضور بينما يعوزها سياسى آخر لا يتمتع بأى شعبية أو عوامل جذب؟ هذه الأسئلة وغيرها من أهم ما شغل علماء السياسة وتحديدا فى مجال النظم المقارنة فى العقود الثلاثة الأخيرة. فبعد انهيار الاتحاد السوفييتى فى بداية التسعينيات، عاد الجدل القديم بين علماء السياسة حول ما إذا كان البشر يتعاطون مع السياسة بعقلانية ورشادة تبحث عن تحقيق مصالحهم وتعظيم مكاسبهم أم باندفاع عاطفى يعبر عن مشاعرهم لا عقلهم؟

تذكرت ذلك الجدل وأنا أتابع حال المصريين خلال السنوات الثلاث والنصف السابقة صعودا وهبوطا بين رغبة فى التغيير والإصلاح وبين سكوننا واستسلام للأمر الواقع بحثا عن الاستقرار، بين المجازفة باختيار تيار سياسى لم يعاصروا حكمه من قبل وبين العودة إلى تأييد قائد عسكرى يذكرهم بعبد الناصر، بين الثورة وبين الاحباط وبين إثارة السلامة و«المشى بجانب الحائط» ثم الانقلاب على الثورة. فلاشك لدى أن كثيرا من المشاعر والعواطف وقليلا من الرشادة تتحكم فى خيارات المصريين السياسية، حتى إن الباحثين لا يستطيعون حتى الآن التوقع الدقيق لتوجهات المصريين السياسية ولا بالعوامل التى تتحكم فى سلوكهم السياسى، بيد أن بعض شركات الدعاية السياسية والأجهزة السيادية على ما يبدو طورت قدرا من العلم لفهم مشاعر المصريين وتوجهاتهم السياسية وهم بذلك وفروا حدا أدنى من الفهم وبناء عليه من تطوير سياسات للتحكم فى تلك الخيارات والسلوكيات السياسية. دفعنى هذا الموضوع للبحث فى عالم ما وراء الدساتير والقوانين والمؤسسات الحكومية والأحزاب السياسية كأدوات وأطر تقليدية لفهم السياسة، نحو عالم أرحب فيه علوم بينية غير تقليدية تم تطويرها تعتمد على علمى النفس والاجتماع لفهم ومن ثم التحكم فى السلوك السياسى للمواطنين.

•••

فى رحلة بحثى القصيرة هذه وجدت كتابين على درجة عالية من الأهمية ساعدانى فى فك الكثير من طلاسم الأمر، الأول هو كتاب «السياسات الحالمة» passionate politics الصادر فى عام ٢٠٠١ وحرره Jeff Goodwin وأخرون، ويحكى عن المشاعر وعلاقتها بسياسات الحركات الاجتماعية والسياسات الاحتجاجية، والآخر هو «السياسة والمشاعر: ظاهرة أوباما» politics and emotions: the Obama phenomenon والصادر فى ٢٠١١ وحرره Marcos Engelken-وآخرون ويتحدث عن علاقة المشاعر بالسلوك السياسى مركزا على صعود ظاهرة أوباما فى السياسة الأمريكية. فى الكتابين هناك اتفاق على ست ملاحظات رئيسية فيما يتعلق بالعلاقة بين المشاعر والسياسية:

أولا: بعد عقود من عدم الاهتمام بالمشاعر ودورها فى تشكيل السلوك السياسى للمواطنين عاد الاهتمام بها مرة أخرى ليطغى على نظرية الرشادة التى ارتبطت بانتشار الفكر الليبرالى والتى تفترض أن المواطنين يتمتعون برشادة وعقلانية فى قراراتهم وحساباتهم السياسية ويسعون نحو تعظيم مصالحهم، وبالتالى فإن دراسة وتحليل الظواهر السياسية بالاستناد إلى المفاهيم التقليدية كالقوة والدولة والمؤسسات والقوانين والهياكل يظل قاصرا عن فهم تطور الظواهر السياسية والتى أصبحت وخصوصا فى عصر ثورة الاتصالات تتسم بقدر كبير من الانفعالات غير الرشيدة المستندة إلى المشاعر.

ثانيا: بعكس الافتراضات التقليدية لمدرسة الحداثة، فإن السلوك السياسى لمعظم المواطنين لم يعد من الممكن تحليله بالحسابات التقليدية للانتمائات الأيديولوجية والحزبية، ولكن لا يمكن فهمه إلا فى إطار فهم البيئة الثقافية للمواطن والتى تشكلت عبر مؤسسات التنشئة التقليدية من الأسرة مرورا بالمدرسة وصولا إلى المؤسسات الدينية المختلفة، والتى تتحكم فى ميول المواطن السياسية وطريقة تفاعله مع المجتمع.

ثالثا: إن السلوك السياسى لمعظم المواطنين يدور حول مشاعر الخوف والغضب والثقة والأمل، فتفاعل المشاعر الأربعة هذه كفيل بتحديد وجهات المواطن السياسية وسلوكه التصويتى وسياساته الاحتجاجية. فعلى سبيل المثال، كلما زادت درجة الخوف لدى الناخب فإنه يميل إلى التصويت المحافظ إلى المؤسسات والأشخاص التى يشعر تجاهها بالثقة لا بالانتماء الفكرى أو الحزبي، بينما كلما زادت درجة الغضب، قلت درجات الثقة، ومن ثم مال المواطن إلى التصويت العقابى أو التصويت بالاستبعاد، بينما شعور المواطن بالأمل يدفعه إلى الاقبال على خيارات سياسية مغامرة وغير محسوبة وغير تقليدية وهكذا.

رابعا: تزايد السياسات الاحتجاجية للمواطنين فى شكل مظاهرات واضرابات واعتصامات يعود بالأساس لتزايد الشعور بالغضب وغياب الأمل فى الأطر الرسمية، وتحول هذا الغضب إلى فعل منظم ناجح كإنشاء حركات احتجاجية، يتوقف على الشعور بالثقة بين أعضاء الحركة، بينما مشاعر الحقد والغيرة والحسد تكون من أهم أسباب انهيار الحركات الاحتجاجية.

خامسا: بالإضافة إلى المؤسسات التقليدية مثل المدرسة والأسرة ودور العبادة، فإن الإعلام أصبح يلعب دورا محوريا فى تشكيل وعى المواطنين وخياراتهم السياسية، ومن هنا فإن فن البيع والدعاية أصبح مرتبطا بصناعة الحملات الانتخابية التى تقوم بترويج برامج الحزب ومرشحيه وبتسويق «صور» المرشحين لكسب ثقة الناخب وجذبه بعيدا عن مدى جدوى وأهمية هذه البرامج وقدرات هؤلاء المرشحين.

سادسا: تؤكد الدراسات الحديثة أن الديمقراطية تراجعت بحدة وأصبحت تواجه تحديات حقيقية وخصوصا فى شكلها التمثيلى أمام هجمة شركات الدعاية والإعلام والمال السياسى ولعبه على عواطف ومشاعر الناس لاستمالتهم بعيدا عن الرشادة، بحيث تحولت السياسة إلى لعبة تسويقية للأحزاب والمرشحين لاقناع الزبون «الناخب» بالشراء!

يخلص الكتابان إلى أن العصر القادم هو عصر الدعاية الإعلامية والقدرات التسويقية واللعب على الأبعاد النفسية والثقافية للناخبين، فى مقابل تراجع عصر السياسات الرشيدة وصياغة البرامج الحزبية وقدرات المرشحين حتى فى أعتى الدول الديمقراطية!

•••

بالعودة إلى المشهد المصري، وأخذا فى الاعتبار غياب المؤسسات التمثيلية والحزبية القوية، فضلا عن تراجع ثقافة الديمقراطية، يمكننا أن نصل إلى نتيجتين مبدئيتين:

الأولى: أن الشعب المصرى يميل بشكل عام للعاطفة وهكذا هى شعوب الشرق عموما، وبالتالى فخيارات المصريين السياسية هى خيارت عاطفية بالأساس تحركها مشاعر الخوف والغضب والثقة والأمل بعيدا عن أى حسابات معقدة أيديولوجية كانت أو تنظيمية، ومن ثم فتبقى هذه الخيارات مؤقتة وقابلة للتحول والانقلاب أو الارتداد السريع، فبالتالى التسرع بوصف انحياز قطاع من المصريين لثورة يونيو بأنه عشق للقمع أو رفض للحرية أو عبادة للبيادة هو من قبيل السذاجة والسطحية والنرجسية فى الحكم على الأمور، فبدون تفهم مشاعر هذا القطاع من خوف على البلد من الانهيار ومن تغيير نمط حياته الشخصية (بغض النظر عن مدى دقة هذه المخاوف) والتى دفعته إلى ذلك التحيز يبقى التحليل ناقصا. وبالعكس فإن اعتبار قطاع المدافعين عن الرئيس السابق مرسى هم مجرد إرهابيين أو خراف أو مهووسين أيضا تحليل غير دقيق طالما أنه لا يأخذ فى التحليل والفهم البعد العاطفى فى الحلم بالمشروع الإسلامى (بغض النظر عن واقعية هذا الحلم) بعد أن شعروا أو اعتقدوا بالاقتراب منه ثم انهار الحلم فجأة!

الثانية: يجب أن نعترف أن العمل الحزبى والمؤسسى سيأخذ وقتا حتى يتمكن من التغلغل فى حسابات المصريين السياسية، وأن لعبة الإعلام والتسويق السياسى شئنا أم أبينا ستلعب دورا هاما لفترة من الوقت فى تحديد الخيارات السياسية للمصريين، ومن هنا فعلى الأحزاب والتيارات السياسية فضلا عن الباحثين السياسيين أن يبذلوا جهدا أكبر خلال المرحلة القادمة للاطلاع على علم النفس السياسى وبرامج التسويق والدعاية باعتبارها أدوات مساعدة فى تعضيد الوجود السياسى البراجماتى على الأقل فى المرحلة الحالية.

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر