دبلة ذهب - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:42 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

دبلة ذهب

نشر فى : الخميس 10 أغسطس 2017 - 10:50 م | آخر تحديث : الخميس 10 أغسطس 2017 - 10:50 م

نظرت لدبلتها الذهبية الكالحة فى غيظ كأنها تريد أن تستنطقها فلم تنطق. مساء أمس نقلت الدبلة من يدها اليسرى إلى يدها اليمنى حتى تتذكر الراتب الشهرى لبائع الجرائد ثم عندما نظرت إلى دبلتها فى الصباح لم تُذٓكرها بالمطلوب. ليست هذه هى المرة الأولى التى تخذلها دبلتها وتضن عليها بالتذكرة بل الأرجح أنها دائما ما تفعل بها هذا النوع من المقالب السخيفة فلا تذكر صاحبتنا ما كانت تود تذكره إلا بالصدفة، وفِى واقعة بائع الجرائد بالذات كان الأمر ميسورا ولم يدم نسيانها لوقت طويل. ناولها البائع حزمة الجرائد اليومية المعتادة فشكرته وهمت بأن تغلق الباب من خلفها فاستمهلها طالبا فلوسه فتذكرت، اعتذرت له خجلة واختفت لثوان ثم عادت لتناوله ما يريد. لم يطل نسيانها فى هذه الواقعة صحيح، لكنها لا تحب أن يطلب الناس حقوقهم بأنفسهم وتفضل كثيرا أن تذهب إليهم تلك الحقوق دون سؤال. هى تذكر كم كانت تشعر بالخجل عندما كان يتأخر راتبها الشهرى ليوم أو يومين وتذهب إلى صرَّاف المصلحة لتسأل عنه فيبتسم فى وجهها ابتسامة لزجة قائلا: ربنا يبعت يا مدام. كانت تمسك نفسها بالكاد عن أن تحاججه وتطلب منه ألا يزج بالله فى الموضوع، فالراتب الشهرى ثابت والتأخير مسئولية الإجراءات البيروقراطية السقيمة فما دخل الله إذن؟ لم تحب أبدا هذا الموقف ولا تحب أن تُعّرضها دبلتها لمثله مع بائع الجرائد المهذب، لكن هل هذه هى مسئولية الدبلة؟
***
لم يخطر ببال أولئك الذين اخترعوا الدبلة كرمز لإشهار علاقة الارتباط بين اثنين أن يأتى اليوم الذى يتعامل فيه أحدهما (الفتاة على الأرجح) مع هذه الدبلة كمنبه أو أداة للتذكرة، لكن فى ظرف غير معلوم ظهرت هذه الوظيفة للدبلة وتم تداولها وتوارثها جيلا بعد جيل فالأمهات يفعلن ذلك وأيضا الجدات والخالات. فى الواقع ليست هذه هى الوظيفة الوحيدة للدبلة التى أضيفت لها والتى تتجاوز بكثير غرضها الأصلى وهو تحديد الوضع الاجتماعى لمن يلبسها، فمن الوظائف الأخرى التى استُحدِثت للدبلة تحديد دين الرجل وما إذا كان مسلما أم مسيحيا، صار المسلم لا يرتدى الدبلة الذهب فإذا أنت وجدت محمدا أو محمودا يلبس دبلة من الذهب فهو إما من جيل الأربعينيات أو الخمسينيات الذى نشأ فى وسط يُعرَّف الدين بالمعاملة وليس بالزى والحلى، وإما أنه من جيل أحدث لكنه ينتمى لأقلية من المصريين لها قناعاتها الخاصة بها وتقاوم الضغوط المجتمعية عليها مهما اشتدت. هكذا صارت الدبلة الذهب أداة للفرز الدينى، وبالطبع الطبقى، فالدبلة الفضة أرخص وهى فى متناول حديثى الارتباط من أبناء الطبقة الكادحة. ومع ذلك فالمسألة ليست بهذا الوضوح فى بُعدها الطبقى فهناك بين المسلمين «الأتقياء» من يرفض قطعيا شراء الدبلة الذهب لكنه يتخذ دبلة من معدن البلاتين وهو معدن لا يشبه الفضة إلا فى لونها أما جوهره فهو أغلى وأنفس من الذهب بما لا يقاس، وهذا مظهر أصيل من مظاهر النفاق الاجتماعى وأيضا الدينى التى تحاصرنا.
***
لا تنسى صاحبتنا الوظيفة الأهم لدبلتها الذهبية وهى أنها مستودع مشاعرها إن دهشة فدهشة وإن فرحا ففرح وإن غضبا وتمردا فغضب وتمرد، فى اليوم الأول الذى طوقت فيه الدبلة الذهب إصبعها البنصر راودها إحساس غريب.. ففى مواجهة هذه الدائرة الذهبية لا خيار لها، لا تستطيع أن تنزعها كما تفعل بقرطها المصنوع من اللؤلؤ الذى تبدله من وقت لآخر، ولا يمكن أن تخلعها كما تفعل مساء كل يوم مع نظارتها الطبية رغم أهميتها، لم تعد الدبلة مجرد قطعة حلى بل صارت رمزا له دلالة خاصة جدا، هل عرفنا من أين تستمد رموزنا قوتها؟؟ احتاجت صاحبتنا وقتا طويلا لتعتاد على دبلتها وتبدل علاقتها بها من الاستغراب إلى الألفة. وحين كان زوجها يفاجئها بلمسة رقيقة من تلك اللمسات التى نعشقها نحن النساء ويضحك بها الرجال على عقولنا ككلمة مجاملة أو «سى دى» جديد لمطربها المفضل فإنها كانت تصر على ألا يشارك الدبلة فى إصبعها خاتم آخر وكأنها تريد أن تعطى لشريك العمر أولوية مطلقة، ولو أمكنها لرفعت لافتة مكتوب عليها «مدام فلان». أما حين كانت تقلب على زوجها أو يقلب هو عليها فإن الدبلة كانت تتحول إلى ما يشبه حبل المشنقة، هل رأينا أحدا يُشنٓق من إصبعه؟ نعم كانت هى.. حتى إذا ما عادت المياه لمجاريها وتبدد الخلاف أو تأجل بدا لها وكأن حكما بالبراءة أنقذها من موت محقق.
***
عاودت صاحبتنا النظر لدبلتها وتمتمت: ياااااااه كل هذه الفلسفة لأن الدبلة لم تُذٓكِرها براتب بائع الجرائد؟ أحست أنها قست على تلك الدائرة الوديعة حول إصبعها وحملتها فوق ما تحتمل، ربتت عليها مشفقة واطمأنت إلى أنها مستقرة فى مكانها.. نست الموضوع أو تناسته وراحت تقرأ عناوين أول جرائدها الصباحية.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات