واصلت الإمبراطورية العثمانية الانهيار والتراجع فى القرن التاسع عشر، عجزت عن اللحاق بالثورات الصناعية والسياسية الأوروبية ومن ثم تخلفت اجتماعيا وعلميا وثقافيا. تزايد سخط الشعوب التابعة للإمبراطورية، وبدأ عصر هيمنة العثمانيين على أوروبا فى التلاشى، فوقعت الدولة العثمانية عشرات الاتفاقات الدولية مع القوى الأوروبية تنازلت خلالها عن مساحات كبيرة من مناطق نفوذها. بدأت الديون تتزايد على عاتق الدولة وبدأت عملية الاستدانة من الغرب فى التأثير على مقدرات الدولة العثمانية.
فى الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تولى السلطان عبدالحميد الثانى قيادة الدولة العثمانية وهو فى منتصف الثلاثينيات من عمره. كان شابا واعدا ومثقفا ومتفتحا. قبل توليه العرش، كان قد قام بالعديد من الزيارات إلى أوروبا، كانت آراؤه سلبية بخصوص فرنسا والتى لم يرها إلا دولة «لهو» بحسب ما أورد الباحث على محمد الصلابى فى كتابه المعنون «السلطان عبدالحميد الثانى وفكرة الجامعة الإسلامية..» الصادر عام ٢٠١٢ عن المكتبة العصرية فى لبنان. وعلى العكس من ذلك، فقد كان معجبا بالتحديث الصناعى الإنجليزى، وبالنظام الإدارى والعسكرى فى ألمانيا. ورغم أن كتاب الباحث الصلابى ملىء باللغة السجعية والاتهامات المرسلة للقوى الأوروبية فهو أقرب لكتاب أيديولوجى/ ترويجى منه لكتاب علمى، إلا أنه أرّخ بشكل جيد لخلفية وبداية حياة عبدالحميد الثانى كسلطان عثمانى.
قرر عبدالحميد أن يعيد للإمبراطورية العثمانية مجدها وأن يلحق بركب التحديثات الأوروبية من خلال ثلاثة أضلع: الضلع الأول هو التمسك بالهوية الإسلامية للدولة العثمانية بعد سنوات من إهمال هذه الهوية، فقد أعاد لقب الخليفة إلى السلطان بعد عقود من إهمال هذا اللقب داعيا إلى وحدة إسلامية جامعة، والضلع الثانى كان متمثلا فى التحديثات السياسية من خلال تبنيه لدستور جديد عام ١٨٧٦ يدشن مرحلة جديدة من الانفتاح السياسى محاولا التطوير من المؤسسات النيابية والرقابية، ثم كان الضلع الثالث هو الضلع العسكرى، حيث حاول عبدالحميد إعادة تحديث الجيش العثمانى الذى كان لا يقارن بالتكنولوجيا العسكرية الأوروبية فى ذلك الوقت.
حاول السلطان عبدالحميد التحديث المادى على الطريقة الغربية، بينما حاول فى الوقت ذاته منع عملية التغريب والعلمنة التى كانت سائدة فى أوروبا. وفى هذا المسعى الأخير، فقد اصطدم بالنخبة العلمانية فى تركيا والتى نظمت نفسها فى جمعية «العثمانيين الجدد» وناهضت توجهات عبدالحميد الإسلامية فما كان من الأخير إلا أن اتهمها بالفجر والمجون وإفشاء أسرار الدولة للأوروبيين.
***
فى كتابه «الدولة العثمانية فى التاريخ الإسلامى الحديث» لإسماعيل أحمد ياغى والصادر عام ٢٠٠٢ لدار نشر العبيكان فى المملكة السعودية، وصف للإصلاحات السياسية التى حاول عبدالحميد إدخالها للدولة العثمانية ولعل أهمها هو إنشاء برلمان حديث مكون من غرفتين وهما مجلس الأعيان والمكون من ٢٦ مقعدا ومجلس النواب والمكون من ١٢٠ مقعدا. كان لهذا البرلمان صلاحيات واسعة للغاية وخصوصا فى إقرار الميزانية وتشريع القوانين. فى عام ١٨٧٧ تم إجراء أول انتخابات حديثة فى تاريخ الدولة العثمانية وربما فى تاريخ المسلمين وانتهت هذه الانتخابات إلى فوز المسلمين ب ٧١ مقعدا وفوز المسيحيين ب ٤٤ مقعدا وفوز اليهود ب ٤ مقاعد. كانت هذه الانتخابات نقلة نوعية فى تاريخ الإمبراطورية العثمانية وتاريخ المسلمين، ذلك أن السلطان عبدالحميد قد أقر بذلك مبدأ «العثمنة» وهو ما يعنى أن يكون لكل رعايا الدولة العثمانية نفس الحقوق والحريات بغض النظر عن ديانتهم ومواقعهم الجغرافية هو ما كان بمثابة تدشين لمبدأ المواطنة الحديث.
لكن عندما بدأ البرلمان ممارسة سلطاته بشكل حقيقى، وطلب أن يمثل ثلاثة من الوزراء أمامه بخصوص انتهاكات مالية منسوبة إليهم، ثار عبدالحميد ضد البرلمان وقام بحله بعد أقل من عام واحد من انتخابه وظل البرلمان مجمدا طيلة ثلاثين عاما قبل أن يعيد عبدالحميد الحياة النيابية مرة أخرى فى عام ١٩٠٨ فى آخر فترة حكمه!
الملاحظ أن الكتابات التاريخية حتى المتحيز منها للسلطان عبدالحميد مثل كتاب الصلابى سالف الذكر لا ينفى كره السلطان للديمقراطية وأن موافقته على دستور ١٨٧٦ لم تكن إلا بضغوط «ماسونية غربية» حيث رفض عبدالحميد أن يتم الحد من سلطته ورأى أن ذلك مؤامرة غربية لتقويض حكمه! من أسباب ضيق السلطان عبدالحميد بالدستور والديمقراطية أيضا بحسب الصلابى هو أنها قد تأتى بولاة مسيحيين، وأنه طلب منه أن يقبل طلابا مسيحيين فى الكلية الحربية العثمانية وكلها أمور رفضها عبدالحميد بحجة أنها تقضى على «العنصر الأصلى» المكون للدولة العثمانية!
وهكذا وبعد عام واحد فقط من توليه الحكم فقد عادى عبدالحميد كل مظاهر الديمقراطية والتى كان يفضل تسميتها ب«المشروطة» فقام بإبعاد الصحفيين والكتاب من العاصمة تحت دعوى نشر الفكر الغربى، ورأى أن الكلمة العليا يجب أن تكون للشريعة الإسلامية والتى بحسب ترجمته، وفهمه لها لا تقبل بأى ملامح للحياة الغربية!
قام السلطان عبدالحميد بإنشاء جهاز مخابرات مركزى قوى قام بالتجسس على كل قوى المعارضة وأهمهم حركة «تركيا الفتاة» التى مثلت الخطر الأكبر على الحكم المطلق لعبدالحميد الثانى كونها تكونت من شباب وطلاب وعسكريين رفضوا استبداد السلطان، لكن الأخير كان يقوم بالتنكيل بكل معارض ويتهمه بمحاولة الانقلاب على الحكم وبالتجسس للقوى الغربية وكذلك بالإرهاب!
***
انتشر التمرد ضد السلطان عبدالحميد، فقامت ثورة فى بلاد البلقان وفى بلغاريا ضد الدولة العثمانية بسبب سوء الإدارة والاستبداد السياسى والمالى وخصوصا تحيز القضاة المسلمين المعينين من قبل عبدالحميد ضد المواطنين المسيحيين فى هذه البلاد بالإضافة إلى تحميل غير المسلمين بضرائب إضافية، حاول عبدالحميد امتصاص هذه الثورات بإدخال بعض الإصلاحات السياسية والاقتصادية، مثل إلغاء تعيين القضاة واختيارهم بانتخابات مباشرة من الأهالى، كما قام بإلغاء الضرائب الإضافية على المسيحيين، لكن كانت تلك الإصلاحات على ما يبدو متأخرة فاستمرت ثورة البلقان والبلغار واتهمت مخابرات الدولة العثمانية القوى الأوروبية باستغلال المسيحيين الرعايا فى الدولة العثمانية لإثارة القلاقل والفتن.
كذلك فقد اصطدم عبدالحميد بقياصرة روسيا وخصوصا بشأن التوسعات الروسية فى وسط أوروبا وفى آسيا، ورغم أن الجيش العثمانى كان قد تمكن من الانتصار على نظيره الروسى فى ست معارك متفرقة، إلا أن الروس استعادوا أنفسهم وهزموا العثمانيين وأجبروهم على توقيع اتفاقية سان ستيفانو عام ١٨٧٧ والتى أعطت الاستقلال السياسى لصربيا وبلغاريا والاستقلال الإدارى لرومانيا، بالإضافة إلى دفع الدولة العثمانية غرامة قدرها ٢٥٠ مليون ليرة ذهبية للروس مع تعهد العثمانيين بتحسين أوضاع المسيحيين والأقليات فى ربوع الدولة، واضطر السلطان عبدالحميد لاحقا إلى السماح للإنجليز باحتلال قبرص على أن تظل تابعة للعثمانيين فى محاولة للإنجليز لكبح جماح الروس بعد تزايد نفوذهم. الحقيقة أن اتفاقية سان ستيفانو كانت البداية الحقيقية لتفتت الإمبراطورية العثمانية وانطفاء بريقها إلى الأبد بعد ذلك بعقود قليلة.
كانت هذه هى الظروف التى دفعت السلطان عبدالحميد إلى اتخاذ لقب الخليفة ودعوته لإنشاء «الجامعة الإسلامية» لتكون بمثابة منبرا لتكتل المسلمين خلفه فى حروبه ضد القوى الأوروبية وهو ما نتناوله فى مقالة قادمة.