سئل أحد الساخرين عن أهم أسباب الطلاق، فأجاب دون تردد: إنه الزواج، وعلى الرغم من عمق الإجابة وصدقها إلى حد بعيد، فإن المهتمين بعلم الاجتماع وفروعه المختلفة قد رصدوا العديد من الأسباب التى يمكن فهم زيادة معدلات الطلاق فى ضوئها. الاقتصاد أيضا لم يهمل هذا النوع من الظواهر والمتغيرات الاجتماعية، وقد تفرع نفر من الاقتصاديين لوضع النظريات والأبحاث الاقتصادية التى تحلل الزواج والطلاق بأدوات القياس الحديثة.
وإذ نحتفل هذا الشهر وتحديدا فى الثامن من مارس باليوم العالمى للمرأة، فقد أسعدنى القدر أن أكون أول من نظم للاحتفال به فى البورصة المصرية، بإطلاق جرس التداول فى الأسبوع الأول من مارس من كل عام بداية من عام 2017 بالتنسيق مع مبادرة البورصات المستدامة التابعة للأمم المتحدة، والذى سبقه وتلاه العديد من الالتزامات بتمكين المرأة والمساواة بين الجنسين ضمن أهداف التنمية المستدامة، التى كنت لفترة من الزمن أحد حراسها فى أسواق المال على مستوى العالم، بصفتى نائب رئيس لجنة الاستدامة بالاتحاد العالمى للبورصات. يتزامن هذا العام مع الاحتفال بيوم المرأة العالمى شيوع حالة من القلق بخصوص زيادة الأعباء على المرأة المعيلة، وتحملها فى سبيل ذلك ما لا تطيق فى ظل تزايد معدلات الطلاق فى مصر بشكل غير مسبوق.
يقينا لا يمكن أن تستقيم أحوال أى مجتمع إن لم تستقم أهم خلاياه المؤسسية وأولى مدارسه الحياتية ألا وهى الأسرة. وقد ارتفعت معدلات الطلاق فى مصر بشكل أزعج الجميع، وانتفضت له القيادة السياسية فانعكست على خطب رئيس الجمهورية وكبار المسئولين، وتقارير المراكز البحثية المتخصصة التى صفعتنا بإحصاءات مقلقة عن معدلات الطلاق فى مصر خلال السنوات الماضية، حتى أعلنت وزيرة التضامن الاجتماعى عن ارتفاع تلك المعدلات سنويا خلال العقد الأخير بنسبة 86%.
***
وفى دراسة صادرة عام 2003 لباحثين من جامعة فيرجينيا عن «اقتصاديات الزواج والطلاق» (لاحظ غرابة العنوان) خلص كل من «ليورا فرايدبيرج» و«ستيفن شتيرن» إلى كون مكاسب الزواج بين شريكى الحياة لا تنحصر فقط فى الأسباب العاطفية التقليدية، ولكنها تنبع أيضا من الإدارة الأكثر كفاءة للموارد (سواء المال أو الوقت)! كذلك خلص الباحثان إلى أن توزيع تلك الموارد داخل علاقة الشراكة برباط الزواج تعتمد على القوة التفاوضية لكل شريك. كذلك توصلا إلى أن حالات الطلاق يمكن أن تتم «بكفاءة» بحيث لا تتدخل الأديان ولا الأعراف المجتمعية فى منع أو حدوث تلك الحالات، ولكنها تتدخل بالطبع فى عملية توزيع الموارد أثناء الزواج. مما يعنى أن عملية توزيع الموارد داخل الأسرة تلعب دورا مباشرا فى الحفاظ على الزواج أو إنهائه، فى الوقت الذى لا يكون فيه الوازع الدينى أو المجتمعى سوى عامل مساعد غير مباشر فى تلك المعادلة المهمة.
البحث المشار إليه أكد على كون جموع الاقتصاديين لم يتوصلوا بعد إلى تفسير قاطع لاتجاه العزوف عن الزواج فى الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأوروبا تحديدا، مرجع ذلك هو تشابك وتعقيد عدد كبير من العوامل التى يبنى عليها الإنسان قرار الزواج أو الطلاق. كذلك لا يمكن لأى باحث اقتصادى أن يتحكم فى ذلك العدد الكبير من العوامل المتغيرة المتفاعلة المؤثرة فى قرارى الزواج والطلاق، لاختبار نظريات متنافسة ومتناقضة بخصوص كل منهما. على سبيل المثال وليس الحصر، فقد يتوصل الباحث إلى نموذج قياسى يفسر زيادة انخراط المرأة فى سوق العمل بارتفاع احتمالات الطلاق، التى تزيد من مخاطر تحمل المرأة للمسئولية المادية بصورة منفردة، ومن ثم ضرورة الاستثمار فى التأهيل العلمى والعملى الذى يعينها على الاستقلالية. من ناحية أخرى يمكن بناء نموذج يعزى ارتفاع حالات الطلاق إلى زيادة المعروض فى سوق العمل من النساء بما يسفر عنه ذلك من اضطراب العلاقة الزوجية وارتفاع حدة المنافسة داخل البيت الواحد.
***
وإذا نظرنا من زاوية أخرى إلى القوانين المنظمة لعملية الطلاق فى الولايات المتحدة، فهل يمكن الجزم بأن تحولها مع بداية السبعينيات من القرن الماضى من اشتراط قبول طرفى الزواج لإتمام الطلاق إلى الاكتفاء برغبة طرف واحد فقط، قد تسبب فى زيادة معدلات الطلاق، أم أن تغيير تلك القوانين هو الذى جاء تلبية لرغبات متزايدة فى إنهاء زيجات فاشلة؟!... هذا شأن معظم الظواهر الاجتماعية مع محاولات التحليل والقياس، عادة ما تتوه العلاقات السببية وتختلط بفعل التغير المستمر وتداخل العوامل غير القابلة للعزل، ويصبح من الصعب ترجيح نموذج إحصائى أو قياسى على نموذج آخر بديل، مرد ذلك فى الأساس إلى تعقد النفس البشرية وتغير استجابة الإنسان للاختبارات لمجرد شعوره بأنه تحت المجهر.
فى البحث المشار إليه توضح الإحصاءات أن معدلات الزواج فى الولايات المتحدة الأمريكية قد انخفضت بنحو 20% خلال الفترة من 1980 إلى 2000. كذلك ارتفعت معدلات الطلاق بأكثر من الضعف خلال الفترة من 1965 إلى 1980، لكنها استقرت نسبيا بعد هذا التاريخ ومالت إلى الانخفاض بنفس النسبة تقريبا التى انخفضت بها معدلات الزواج خلال الفترة من 1980 إلى 2000، أى أن كلا من معدلات الزواج ومعدلات الطلاق كانا يسيران فى خطين متوازيين فى ذات الاتجاه حتى عام 2000 (الذى انتهت إليه الدراسة).
الوضع فى دول أوروبا يزداد سوءا، فخلال الفترة من عام 1965 إلى عام 2015 انخفضت معدلات الزواج فى دول الاتحاد الأوروبى من 7.8 فى الألف إلى 4.3 فى الألف. كما ارتفعت حالات الطلاق خلال الفترة ذاتها من 0.8 فى الألف إلى 1.9 فى الألف وذلك وفقا لدراسة إحصائية لمكتب يوروستات الإحصائى التابع للاتحاد الأوروبى. أى إن منحنيى الزواج والطلاق فى دول أوروبا (الأكثر تقدما) وعلى مدى خمسة عقود تقريبا يميلان إلى التماس ويقتربان من نقطة الالتقاء عن مستويات منخفضة نسبيا. تلك مؤشرات تنذر بالخطر وتعكس وجها مخيفا للتفسخ الأسرى، بما له من تداعيات مجتمعية سلبية.
يشار إلى أن الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء كان قد أعلن نتائج لدراسة تطور ظاهرة الطلاق خلال الفترة من العام 1995 إلى العام 2015 مؤكدا أن نسبة الطلاق ترتفع بين الزوجين غير المتعلمين وتقل بين المتعلمين وتتلاشى حالات الطلاق لكل من الذكور والإناث الحاصلين على مؤهل فوق الجامعى، حيث يحسن بالتأكيد إدارة الموارد الاقتصادية داخل الأسرة، كما تقل حالات الطلاق فى القرى والريف وتزيد فى الحضر والمدن. الدراسة أكدت ارتفاع معدلات الطلاق فى عام 2015 إلى 2، 2 فى الألف بزيادة 83% عن المعدل فى 1996، مشيرة إلى وقوع 200 ألف حالة طلاق خلال العام ما يعادل 22,6 حالة طلاق كل ساعة تقريبا وهو ما يعنى حالة طلاق كل 3,8 دقيقة.
وفقا لدراسة الجهاز فإن أسباب الطلاق ترجع بشكل أساسى إلى العنف الأسرى والخيانة الزوجية والإيذاء البدنى وتدخل الأهل والأقارب وقلة الخبرة وعامل السن. وذكرت الدراسة أن أعلى نسبة طلاق بين الإناث سجلت فى الفئة العمرية من 20 إلى 34 عاما.
***
الطلاق الذى يعرفه كل مصرى على أنه أبغض الحلال عند الله، تحول إلى باب سهل لحل الخلافات الزوجية بين عموم الشباب المتزوجين حديثا. كنت صغيرا أرصد فى محيط المعارف والأقارب عددا محدودا من تلك الحالات التى تستدعى الخوف على مصائر الأبناء والمطلقات. اليوم انتشرت حالات الطلاق حتى صارت مألوفة لا ينزعج لها معظم الناس.
الأسباب «الاقتصادية» لانهيار عقود الزواج فى مصر لا تختلف فى رأيى عن مثيلاتها فى الدول الغنية، مما يستبعد الفقر كأحد تلك الأسباب، بل هو إدارة الموارد الاقتصادية على نحو يتميز بالكفاءة أو الإخفاق والفشل، كما سبق أن توصل البحث المشار إليه سابقا. القدرة على التخطيط لعلاقة زوجية ناجحة يجب أن تتعدى مسائل الألفة والتفاهم والمساحات المشتركة إلى ما وراء ذلك من تخطيط لاقتصاديات الأسرة، وتدبير للموارد على نحو يساعد على استمرار تلك الوحدة المجتمعية الأهم.
كثيرا ما تفشل زيجات هوليوود بين أصحاب الملايين لأسباب مختلفة، لكنها فى معظمها تعكس فشلا فى إدارة موارد المال والوقت على نحو يحقق السعادة للطرفين. بل إن تلك الزيجات تتحول فى المحاكم الأمريكية إلى خلافات مادية صريحة حول اقتسام الثروات، على الرغم مما قد يبدو من تراجع الأسباب الاقتصادية فى إفساد هذا النوع من العلاقات بين المشاهير وأصحاب الثروات.
رئيس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية.