أظن أنه بين كل التفسيرات التي ستطوف بخيال القرّاء الأعزاء لشرح عنوان مقال اليوم، فإن تفسيره الحقيقي سيظل بعيدًا عن خيالهم. في عددها الصادر يوم ٢٦ فبراير الماضي نشرَت جريدة النيويورك تايمز الأمريكية موضوعًا بعنوان "كمثل حضن دافئ من ملاك"، وكاتبة المقال هي مايا سلام أما المُصوّرة فهي فرح القاسمي. والمفاجأة أن مايا وفرح لم تصنعا موضوعًا يتعلق بقصة حب ملتهبة كما يوحي العنوان لكنهما طافتا بِنَا في عالم... البطاطين العربية! المقال الطريف قائم على مجموعة كبيرة من اللقاءات مع عرب من جنسيات مختلفة يعيشون في الولايات المتحدة، وقد راح كلٌ منهم يتحدث بامتنان عن حكايته مع البطانية. هذه لانا كسبة الفلسطينية التي تعيش في فيرچينيا ولديها وزوجها المصري عدد يعتد به من البطاطين العربية، هي تصطحب هذه البطاطين في نزهاتها الخلوية، وهي تختبئ داخلها في ليالي الشتاء الباردة أثناء متابعة الأفلام الجديدة على نيتفليكس وبين يديها فنجان من السحلب الدافئ. وهذه رانيا المراكشي المقيمة في ميريلاند والتي تتزود بما يلزمها من بطاطين عند زياراتها الدورية للمغرب، وهي تعتمد فيما تشتريه من بطاطين على عمها الذي يعيش في مدينة طنجة ويصدّر البطاطين الفاخرة لأفريقيا وأوروبا. وهذا صبحي طه المصري الذي يسكن تكساس وله قناة خاصة على اليوتيوب يتابعها ربع مليون شخص، أما هذه فإنها فرح القاسمي الفنانة الإماراتية/ اللبنانية التي تسكن نيوريورك والتي أبدعت تصوير البطاطين في مقال النيوزويك الذي أحكي عنه، وكلاهما صبحي وفرح يتغنيان بجمال البطانية وما تبعثه من دفء، فما حكاية البطاطين العربية هذه؟
***
تعتبر فرح أن التدثر بالبطانية يوفر شعورًا بالانتماء للمنطقة العربية، فالعرب يشتركون في اقتناء تلك البطانية بأشكالها المختلفة، فمنها ما يحمل نقوشًا كتلك الموجودة على السجاجيد الإيرانية، ومنها ما تزينه زهور ذات ألوان زاهية، والحق أن فرح كانت موفقة تمامًا في اختيار الصور التي تضمنها المقال لتعبر عن المروحة الواسعة من الخامات والرسومات التي تميز البطاطين العربية، وفي واحدة من هذه الصور كشّر نمر عن أنيابه كما لو كان يوشك أن ينقّض علي فريسته، وتساءلتُ بيني وبين نفسي عن أي نوع من الأحلام الذي يمكن أن يأتي شخصًا يلتحف بهذه البطانية العجيبة. عمومًا الموضوع كله طريف، لكن أكثر ما أعجبني فيه التعامل مع البطانية باعتبارها أداة من أدوات القوة الناعمة العربية، وهذه فيما أعلم زاوية جديدة تمامًا، إنها جزء غير منظور من المشتركات الثقافية بين العرب. ومع ذلك فإن البطانية لا تربط العرب وحدهم فهي تربط بينهم وبين شعوب آسيا وأفريقيا من غير العرب، أما الوضع في أوروبا والأمريكتين فإنه جد مختلف حيث يقوم نظام التدفئة في البيوت بالواجب، ولا تعود هناك حاجة لأغطية ثقيلة ولا لملابس صوفية. ولا أكاد أذكر مرة رأيت فيها حفيدتي، التي تقيم في كندا وهي تتقافز من غرفة لأخرى بملابس صيفية في عز الشتاء، إلا وأحسستُ لها بالبرد، فعلي الرغم من كل الحجج القوية لهذه العفريتة الصغيرة فإنها لم تقنعني أبدًا بمنطقها، ومازلتُ مصرّة على أن لبس الصيف غير لبس الشتاء حتى لو توفرت التدفئة، ثم إنني تربيت على القاعدة المتوارثة التي تقول "الحر ما بيعييش"، ومعنى ذلك أن قليلًا من الشعور بالحر لا يضر وهذا بدوره يعد جزءًا من ثقافتنا العربية الأصيلة .
***
لكن قَصر وظيفة البطانية على التدفئة فيه غبنٌ كبيرٌ للأدوار المتعددة التي تلعبها البطانية في حياتنا نحن العرب أو نحن أبناء الثقافات الشرقية بصفة عامة، وقد أشارت لانا كسبة في المقال لجوانب من هذه الأدوار عندما قالت إنها تصطحب معها البطانية في خروجاتها للتنزه، وبالفعل فكثيرًا ما نرى الأسر المصرية وهي تجلس على البطاطين في الحدائق العامة وبجوارها ما لذ وطاب من الطعام. ثم هناك دور آخر لا يقل أهمية، دور الحاجز بين أفراد العائلة الممتدة الذين يعيشون في "أودة واحدة يا سيد" كما يقول عادل إمام، ودور الحاجز بين الأسر المختلفة التي يجمعها مكان واحد، وهذه ظاهرة شائعة في المخيمات ومراكز تجمع اللاجئين. أما دور البطانية في عملية الإطفاء فهو خطير، وذلك أننا نتيجة تسامحنا الشديد مع معايير الأمان ضد الحرائق في منازلنا، فما أن ينشب حريق لا قدّر الله حتى تتحول البطانية إلي جندي شجاع من جنود الإطفاء وتنقّض على النيران المشتعلة فلا تتركها إلا رمادًا. ثم هناك دور للبطانية في إخفاء الكراكيب، ففي عدد من بيوتنا تُستخدم البطانية كساتر لحقائب وصناديق ولعب وجرائد قديمة وأشياء على الأرجح لا لزوم لها تنتحي ركنًا في الزاوية وتتخذ شكلًا مخيفًا في بعض الأحيان. البطانية هي فراش من لا مأوي لهم ممن يتمددون في الطريق العام، وهي الملاذ الوحيد لساكني البيوت غير المسقوفة.
***
الآن تذكرتُ مشهدًا مألوفًا في مطار القاهرة عندما يندُر أن يعود مصري من العاملين في الخليج وهو غير مُحمّل بشيئين أساسيين، البطانية لزوم التدفئة والمروحة لزوم التبريد. بعض العاملين كانوا يأتون محمّلين بأجهزة تسجيل أو ڤيديو لكن هذه من قبيل الكماليات التي لا يحتاجها الجميع، أما المروحة والبطانية فلا غني عنهما. بطبيعة الحال مصر ممتلئة بالبطاطين التي تناسب كل المستويات، لكن الأرجح أن أسعارها في الخليج أفضل، ولعل هناك سببًا آخر هو الحرص على التفاخر بأن فلانًا وأسرته كانوا في الخليج، فبطاطين الخليج، وهي مستوردة على الأرجح من جنوب شرق آسيا، تكون ذات ألوان زاعقة دالة عليها وبالتالي فإنها متي توفرت فهذا يعني أن في البيت روائح خليجية، وهذا يذكّرني بحال من يذهب إلى المصيف ويقضي وقتًا طويلاً في الشمس ليعرف الجميع عندما يعود أنه كان يُصيّف!
***
شكرًا لمايا سلام وفرح القاسمي صاحبتّي فكرة المقال، ليس فقط لأن مقالهما كان يدفئ كما تدفئ البطانية العربية، لكن أيضًا لأنهما نبهتا إلى أن بين العرب روابط سميكة وإن كانوا لا يدرون بوجودها .