فاز تطبيق مبنى على الذكاء الاصطناعى عام 1997 على بطل العالم فى لعبة الشطرنج. وظن الكثيرون حينها أن اللعبة ستفقد بريقها وجاذبيتها. ولكن على النقيض زاد فضول اللاعبين لمعرفة طرق اللعب التى تميز بها الذكاء الاصطناعى. وزاد إقبال اللاعبين على منافسة التطبيق، ليستفيدوا بشكل شخصى من الذكاء الاصطناعى ويطوروا مهاراتهم فى اللعبة. وبدوره، استفادت تطبيقات الذكاء الاصطناعى أيما استفادة، حيث طورت اللوغاريتمات التى تعتمد عليها لفهم وترجيح الخطوة التالية للخصم. وكلما تنوع اللاعبين وزادت كثافة المباريات كلما استفادت التطبيقات بصورة كبيرة. وبالتالى يمكن القول بأن بناء المعرفة بين اللاعبين والتطبيق هى مسألة متبادلة. ولكن الشاهد، لم يستطع اللاعبون إلى الآن التغلب مجددا على التطبيق، أو مجاراة السرعة التى يتعلم بها. ونحن نستحضر هنا هذه التجربة لدى الحديث عن تطبيق شات جى.بى.تى 4، لكى نحاول الاستيعاب.
خضع تطبيق شات جى.بى.تى 4 لاختبارات المتخصصين والخبراء، كما خضع لاختبارات مواقع لتقييم برامج الذكاء العام الاصطناعى مثل إيفالز (Evals). ثم أتيح التطبيق بمنتصف مارس 2023. وتشير البيانات لانتشاره بسرعة رهيبة، حيث كسر حاجز مليون مستخدم فى خمسة أيام. وهذا بالمقارنة بتطبيقات أخرى أخذت مدة أطول، ومنها إنستجرام فى شهرين ونصف الشهر، وفيسبوك فى عشرة أشهر، وتوتير فى عامين، ونتفلكس فى 41 شهرا. كما كسر تطبيق «شات» بنسخه المتعددة 3، 3.5، و4 حاجز 100 مليون مستخدم فى شهرين! ويتميز البرنامج بسهولة الاستعمال، ويمنح المستخدم الإحساس بأنه يفهم ما تسأله، وأنه يحاول مساعدتك، ومن ثم يسرى شعور بالتناغم بين التطبيق والمستخدم.
يعمل التطبيق كأداة للبحث باستخدام اللغة، وهو مدرب على تتبع الكلمات، ثم البحث عنها فى قاعدة البيانات المتاحة لديه، ثم يأتى بالمعلومات المرتبطة بالكلمة المفتاحية، ويصنفها ويصيغها فى مقال يجيب عن السؤال الذى طرحه المستخدم. وللتبسيط، تصور أننا نتابع حوارا على تطبيق الواتس بين شخصين طبيعيين، يدور بينهما حوار، وتفاعل، وأسئلة وأجوبة، فهذه الصورة هى أقرب صورة مبسطة تحاكى ما يقوم به التطبيق. ويعتمد التطبيق على قاعدة بيانات مخزنة لديه يستمدها من مصادر مفتوحة، ذات ملكية فكرية متاحة للجميع. وتشمل قاعدة بيانات شات جى.بى.تى 4 نحو 300 مليار كلمة، وقفزت سعة المعلومات من 175 مليار «معلمة» بالإصدار 3.5 إلى 170 تريليون «معلمة» فى الإصدار 4، ليكون الإصدار الأخير أقوى 500 مرة عن سابقيه. مما يجعله أقوى محرك ذكاء اصطناعى على الإطلاق.
●●●
وإليك نموذج عن كيفية عمل التطبيق، فلقد جرب أحد أشهر مقدمى برامج الحوار على اليوتيوب، الدكتور جوردون بيترسون، الأخصائى النفسى، حوارا عبر التطبيق، وطرح عليه سؤالا للتعريف بالرئيسين الأمريكيين ترامب وبايدن فى نفس عدد الكلمات لكل منهما. فجاءت الإجابة عن الرئيس ترامب فى حدود 51 كلمة، بينما جاءت عن بايدن فى حدود 81 كلمة. ويكشف هذا التباين عن فرق المحتوى لصالح بايدن. وسأل بيترسون التطبيق عن التباين واتهمه بالتضليل. وأجاب التطبيق بأنه لم يقصد «التضليل»، وفسر التباين باختلاف حجم المعلومات المتاحة لديه عن الرئيسين، ولذلك احتاج لعدد كلمات أكثر لشرح من هو بايدن مقارنة بترامب. وفى معرض التعليق على هذا التباين، قال سام ألتمان، رئيس شركة «أوبن ــ أيه ــ أى» مالكة التطبيق، بأن شركته قررت تطوير البرنامج فى ظل إتاحته للجمهور لكى تستفيد من الذكاء الإنسانى وتنوع المستخدمين الذين يكتشفون الأخطاء مما يساعد الشركة فى معالجة هذا النوع من الانحرافات فى الإجابات، لاسيما وأن المعلومات تحمل ميولا تقليدية، وبالتالى من الصعب ألا يكن التطبيق منحازا أو يميل إلى وجهة نظر معينة فى كل ما لديه من معلومات بكل التخصصات.
وقبل استكمال كلام ألتمان نشير إلى ملاحظتين. الأولى، هى الفرق بين هذا النوع من التطبيقات وبين محركات البحث مثل جوجل وياهو وغيرها. فالأخيرة لا تأتى إليك بالمحتوى، وإنما تأتى إليك بالبيانات. فلو طرحت سؤالا حول وصف الرئيسين ترامب وبايدن، فسيأتى إليك محرك جوجل بعشرات أو مئات البيانات عنهما، سواء كانت مقالات أو دراسات، أو تعليقات، وتسجيلات صوتية ومرئية... إلخ. وقد يشير إلى مواقع تناولت هذا السؤال أو أسئلة مشابهة. ويقع على المستخدم فلترة البيانات، وترجيح الجيد والمناسب، واستبعاد الضعيف وغير الملائم، ثم تكوين وجهة نظر عن الموضوع. الملاحظة الثانية، وجهت العديد من الانتقادات لمحركات البحث التقليدية مثل جوجل وغيرها، وذلك بسبب اختلاف النتائج بحسب المستخدمين. حيث ينحرف أو يميل المحرك ليأتى بمراجع أو مصادر تستهوى كل مستخدم. وهذا ما نبه مفكرون كبار أمثال هنرى كيسنجر لخطورة هذا النوع من التباين على تشويش المعرفة الإنسانية. فما بالك عندما يتحول الموضوع من محركات للبحث إلى محركات للتفكير، تنتج إجابات ووجهات نظر معينة؟
نعود لحديث ألتمان الذى أجراه مع ليكس فريدمان عبر قناة الأخير على اليوتيوب يوم 27 مارس. توقع ألتمان أن يكون لتطبيقات الذكاء الاصطناعى، ومنها تطبيق شات جى.بى.تى 4، بعض المؤشرات العقلية فى غضون عقدين. وقد تفوق بكثير مستوى التفاعل الحالى الذى يجعل المستخدم «يشعر» بأن المحرك لديه «وعى»، فهو بالفعل يجيب إجابات «منطقية» على الأسئلة، و«يدرك» التوجيه، و«يتفاعل» مع الحوار، ويستطيع كتابة مقال أو كتاب أو دراسة، وإصدار محتوى مسموع أو مرئى يشرح الكلمات. ويطلق على هذا النوع من الأداء مصطلح «ذكاء عام اصطناعى»، ويشير إلى ذكاء الآلة الذى يمكنها من فهم وفعل أى مهمة فكرية تشبه ما يقوم به الإنسان. ولكن فى الوقت الراهن، كل هذه الإشارات «تعطى انطباعا «يوحى» بأن التطبيق لديه «وعى» ولكنه مجرد انطباع. ولكن يتوقع ألتمان أن يتغير ذلك فى المستقبل القريب. وحاول فريدمان أثناء النقاش طرح سؤال، هل يمكن أن يصل التطبيق إلى مرحلة الإدراك والوعى بدون أن يعرف المبرمج الذى صنع التطبيق بأن التطبيق وصل لتلك المرحلة بالفعل؟ ونفى ألتمان ذلك.
●●●
وبغض النظر عن رأينا الشخصى، إليك ما تقدم به كل من إيلون ماسك رئيس شركة توتير، وأحد المستثمرين فى تطبيق شات جى.بى.تى 4، وستيف وزنياك رئيس شركة آبل، والكثير من الباحثين فى شركة مايكروسوفت المستثمرة فى تطبيق شات شات جى.بى.تى 4، إضافة إلى أكثر من 2900 متخصص فى المجال، عبر موقع مستقبل الحياة (future of Life) المعنى بآثار التكنولوجيا على حياة الإنسان. حيث وقعوا على خطاب لوقف تجارب الذكاء الاصطناعى «العملاقة» لمدة ستة أشهر، وذلك لأن التطبيقات دخلت فى سباق «خارج عن السيطرة» أنتج عقولا رقمية قوية، تظهر ذكاء «مشابها» للذكاء الإنسانى، لكن من الصعب «فهمه أو التنبؤ به أو التحكم فيه بشكل موثوق». ويطرح الخطاب المفتوح سؤالا «علينا أن نسأل أنفسنا، هل يجب أن نجازف بفقدان السيطرة على حضارتنا؟» وحذر من تفويض مثل هذه القرارات «لتقنيين» غير منتخبين.