حاول المخرج بابلو لاراين أن يمنح الأميرة ديانا سبنسر حياة بديلة غير الحياة القصيرة التي عاشتها، وذلك من خلال فيلمه الأخير "سبنسر". حياة تشترك مع حياة ديانا الأصلية في كم المعاناة النفسية التي تعرَضت لها، لكنها تختلف عن حياتها الأصلية في نهايتها التي حطّمت فيها كل قيود العائلة الملكية فإذا بها تقود سيارتها بنفسها مع ابنيها وتأكل بيديها وجبة سريعة. هذه المرة لم تكن ديانا بحاجة إلى أن تدس أصبعها في حلقها لتتقيأ الطعام، فلقد كانت الوجبة تناسبها تمامًا لذلك سمح جهازها الهضمي بتمريرها، وهكذا قطَعَ البرجر المسافة ما بين فمها وأمعائها في سلام. ومع ذلك فلقد أربكنا المخرج بهذه النظرة القلقة في عيني ديانا آخر الفيلم، وكأن هذه النظرة تنبهنا إلى أن النهاية التي نراها مصنوعة وغير حقيقية وأن ما آلت إليه قصة ديانا سبنسر كان مختلفًا.. مختلفًا جدًا، وفي الأثناء كان الجميع يغني "كل ما أحتاج إليه معجزة.. كل ما أحتاج إليه معجزة".
•••
في شهر يوليو ١٩٨١ جلستُ أتابع مع الملايين حول العالم حفل الزفاف الأسطوري للأميرة ديانا سبنسر إلى ولّي عهد بريطانيا الأمير تشارلز. كان ابني البِكري قد أتم أسبوعين من عمره وتلك فترة لا تعرف فيها الأمهات طعمًا للنوم فما بالنا بالاستمتاع بالفُرجة على حفل زفاف في المملكة المتحدة. هو في لفائفه القطنية البيضاء وهي في ثوبها الأبيض الفخم بذيله الجرّار وتاجها الذي لا تدري من أين يأتي لمعانه بالضبط: المجوهرات التي ترصّعه أم شعر ديانا الأصفر بلون الذهب. جميلة هذه المرأة، وجمالها من هذا النوع الذي يدخل القلوب، بياض البشرة والعيون صافية الزرقة ليسا شرطين للجمال لكن الجمال شرطه القبول، وكان وجه ديانا مقبولًا جدًا. بالكاد وبالمعافرة رحت أتابع الأميرة وهي تزحف إلى الكنيسة حيث القساوسة والأضواء والكاميرات والسواريهات والاسموكينج وحيث بداية النهاية لحياة فخمة جدًا وتعيسة بلا مدى. أحببتها وتابعتها وافتقدتها.
•••
قرر مخرج فيلم سبنسر أن يحكي قصة حياة ديانا من وجهة نظرها هي، واختار أن تقع أحداثه خلال ثلاثة أيام لا أكثر هي: عشية عيد الميلاد ويوم عيد الميلاد واليوم التالي عليه. اختيار المخرج لزمن الأحداث يتميز بالذكاء حتى يبرز التفاصيل الكثيرة والخانقة للحياة داخل قصر باكينجهام. نحن نعرف أن العائلة الملكية في بريطانيا تعتز كثيرًا بطقوسها وتقاليدها ومظهرها وبهرجتها، ولا توجد مناسبة لإبراز هذا كله أفضل من مناسبة كمناسبة عيد الميلاد. أبدعَت بطلة الفيلم كريستين ستيوارت في تجسيد حجم الصراع النفسي الدائر داخلها ما بين عفويتها التامة وهذا العالم الذي يخضع كل شيء فيه لحساب دقيق بالورقة والقلم. تخضع هي وكل أفراد العائلة المَلَكية للوزن بشكل دوري منذ سنّ الملك ألبرت هذه السُنة في منتصف القرن التاسع عشر، حتى لو لم تكن هي تريد أن تزن نفسها، وحتى لو كان نصف وزنها مجوهرات فإنها لابد أن تجلس على الأريكة التي يوجد عليها الميزان لتحديد وزنها بالجرام، وعليها أن تقبل زيادة بضعة جرامات بعد الأكل الدسم في عيد الميلاد لتثبت أنها استمتعت بالمناسبة. يا إلهي إلى هذا الحد تصل عبادة التقاليد؟ يبدو هذا. لكنها ستسخر يومًا ما من هذه العادة العقيمة عندما تجلس على الأريكة مع ابنيها يضحكون ويطوّحون أرجلهم في الهواء .
•••
في هذا الجو تعيش ديانا أو كريستين ستيوارت وهي محاصَرَة حصارًا تامًا، التقاليد والباباراتزي وشبح كاميلا عشيقة زوجها والملكة إليزابيث كلهم يحاصرونها حد الاختناق. يخيطون ستائر غرفتها لأن معاونتها ماجي تركتها مفتوحة ذات يوم فيما كانت هي تغيّر ملابسها، يعيدها الحراس إلى أسوار القصر كلما حاولت أن تهرب إلى بيت أسرتها القديم حيث كانت تضحك وتنط الحبل مثلها مثل كل بنات سنها، يهديها زوجها نفس العقد المصنوع من اللؤلؤ الذي أهداه لعشيقته كاميلا فيخنقها حتى تتخيّل أنها نزعته عنوة من عنقها وتناثرت حباته في طبق الحساء أمامها لتروح تبتلعه حبةً حبةً انتقامًا من غريمتها أو من نفسها من باب أولى. إنها حتى غير قادرة على أن تختار الثوب الذي ترتديه بما يلائم حالتها النفسية فكل شيء معّد ولا مجال للصدفة أو للتغيير: هذا فستان العشاء وهذا للإفطار وهذا للكنيسة.. هذا وهذا، حتى إن هي قررت التمرد وقامت بتبديل فستان بآخر صارت حديث القصر. في الواقع لم تتوقف كريستين ستيوارت عن تكرار محاولات التمرد على مدار الفيلم، ولسنا نعرف إن كانت هذه المحاولات حقيقية أم أراد المخرج أن يعوّض بها ديانا عن الواقع التعس الذي عاشت فيه ستة عشر عامًا بالتمام والكمال. قصّت كريستين ستيوارت ستائرها المغلقة لتنفرج وتكشف لها عن حدائق قصر باكينجهام الغنّاء التي تمتد أمامها على مدد الشوف. غرَسَت في ابنيها كراهية التقاليد وأثمر غرسها فعلًا وإن لم يُكتَب لديانا أن ترى بعينيها ابنها هاري وهو يترك وراءه القصر بما فيه ومن فيه ويعيش في سلام مع من يحب، لم تره ديانا صحيح لكن من المؤكد أنها حيث هي كانت راضية وداعمة ومحبّة، فلقد فعل هاري ما لم يُسمَح لها بأن تفعله. أما هذا البالطو الذي كان يعلّقه والد ديانا على خيال المآتة ليطرد به الطيور التي تأكل الزرع فلقد لعب دورًا مهمًا في الفيلم وربما في حياة ديانا أيضًا. قد تكون كريستين ستيوارت هي خيال المآتة الذي يرتدي ثوبًا يطرد الجميع من حوله، ولقد طرد القصر فعلًا معاونتها ماجي وهي الوحيدة التي كانت مقرّبة منها، والتي صارحتها في وقت لاحق بأنها تنجذب إليها جنسيًا وهذا خط فرعي لم يكن له أي داع في الفيلم. وقد يكون البالطو هو حلقة الوصل بين ديانا وماضيها الذي تحّن إليه، وهذا احتمال وارد جدًا، لذلك فإنها قررت أن تأخذ البالطو من فوق خيال المآتة وتنظّفه وتلبسه وكأنها تدخل به ومن خلاله في أيام زمان. وقد يكون الأمر كله بمثابة فعل من أفعال التمرد بهذا البالطو المهلهل القذر على كل الثياب الغالية التي ابتكرها أشهر المصمِمين، وخروجًا صريحًا على قول زوجها "لابد أن تعوّدي جسدك على فعل أشياء يكرهها لمصلحة البلد"، فما علاقة جسدها وثيابها بمصلحة البلد أصلًا؟
•••
في الفيلم لا يوجد ذلك الخط المعروف عن علاقة ديانا بدودي الفايد، فأحداث الفيلم تسبق هذه العلاقة بعدة سنوات، وربما كان ذلك مقصودًا من المخرج لتبقى حالة التوحّد مع معاناة ديانا كاملة ولا تُقابَل خيانة تشارلز لها بخيانتها له، وبالفعل تحقَق هذا التوحّد التام، وتمنى المشاهد لكريستين ستيوارت وهي تركض في حديقة القصر أن تذهب بعيدًا بعيدًا إلى لا مكان لتكون نفسها وتترك من ورائها تلك المرأة التي لا تشبهها في شيء. تقول بطلة الفيلم "إنهم يلقحونك باللآلئ ويرحلون"، وهذا قول لا يأتي إلا من امرأة تشعر بالوحدة وبالبرودة في قصر فخم جدًا تقضي التقاليد بألا تتم تدفئته، وكأنه من المطلوب أن تتصل برودة المشاعر ببرودة المكان. إنه عمل ممتع فنيًا على مستوى التمثيل والموسيقى والأزياء والديكور وكل التفاصيل والرسائل المبطّنة أيضًا، ففي لحظة صدق نادرة تقول الملكة الأم عن نفسها إنها "تحوّلت إلى عملة عندما وضعوا صورتها على الأوراق النقدية"، وفي هذا الفعل تكريم أكيد لكن أيضًا فيه بيع وشراء ومساومة واكتناز وتداوُل من يد ليد.. والمعنى هو أن التقاليد سلبت الملكة حريتها وفي المقابل حوّلتها إلى ورقة.. مجرد ورقة.
•••
نعم هو فيلم ممتع فنيًا رفيع المستوى، لكنه في الوقت نفسه فيلم مرهق عصبيًا إلى حدٍ بعيد فلا يكاد المشاهد يشعر في نهايته أنه نجا من أجواء باكينجهام الكئيبة إلا بأعجوبة.