القضية الفلسطينية.. وفن الكوميديا! - أحمد عبدربه - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:48 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

القضية الفلسطينية.. وفن الكوميديا!

نشر فى : السبت 11 نوفمبر 2023 - 8:15 م | آخر تحديث : السبت 11 نوفمبر 2023 - 8:15 م

قامت الدنيا فى مصر على وسائل التواصل الاجتماعى خلال الأسبوعين الماضيين بعد أن تحدث الفنان الكوميدى بيومى فؤاد بعد عرض إحدى مسرحياته فى موسم الرياض بالمملكة العربية السعودية عن رفضه لتصريحات زميله الفنان محمد سلام المعتذر عن العرض المسرحى ذاته والذى كان قد سجل فيديو قصيرا مصورا أعلن أنه لا يستطيع إضحاك الناس بينما يقتل أهل غزة برصاص وصواريخ جيش الاحتلال الإسرائيلى! رأى بيومى فؤاد أن سلام من حقه الاعتذار، ولكن ليس من حقه إهانة مهنة الفن، مؤكدا أنه يقدم فنا لا ضحكا!
الحقيقة أنه ورغم أن بيومى فؤاد قد أخطأ فى التفرقة بين الفن والضحك وكأن الكوميديا ليست فنا! ورغم أن سلام لم يهن الفن من بعيد أو من قريب، هو فقط عبر عن موقفه الشخصى الذى أراه صادقا ولا يحمل أى مزايدات تجاه أى شخص، حتى لو يعتقد البعض أنه كان من الأفضل أن يعتذر عن العرض المسرحى دون تسجيل الموقف على مواقع التواصل، إلا أنه لا بيومى فؤاد ولا الفنانين المشاركين فى هذا العرض استحقوا كل هذه الحملة المسعورة التى لا يمكن وصفها إلا بالنفاق والرغبة العمياء فى الانتقام وتصفية حسابات العمل أو فى أفضل تقدير «فش الغل» والتعبير عن قلة الحيلة من الحرب المستعرة على أهل غزة المدنيين، فتم اختيار مجموعة يسهل النيل منها دون أى ثمن يذكر!
بعد اعتذار الفنان سلام عن العمل، أعلن القائمون على عرض المسرحية اختيار فنان آخر «محمد أنور» ليقوم بدور سلام فى العرض، وفور هذا الإعلان قامت حملة على أنور وادعت أنه فنان بلا مبادئ بل وتم الترويج أن الفنان قام بحذف فيديو له يبكى فيه على ضحايا مستشفى المعمدانى (الأهلى) فى غزة وتم الادعاء بأن ذلك عربون لقبول الفنان الجديد فى العمل، وهو ما نفاه الفنان محمد أنور الذى أكد بدوره أن الفيديو تم حذفه بواسطة إدارة «انستجرام» فى إطار حملة القائمين على إدارة المحتوى فى مواقع التواصل المختلفة ضد المحتوى المتعاطف مع القضية الفلسطينية!
لم يتوقف الأمر هنا، بل وقام الكثيرون ــ وللأسف منهم أصدقاء ــ بعمل قوائم تسمى «القوائم السوداء» وتم وضع فيها أبطال هذه المسرحية تحت دعوى أنه سيتم محاسبتهم بعد انتهاء الحرب! بل وقامت بعض الشركات التجارية باستخدام الفنان بيومى فؤاد بشكل متدنٍ للترويج لمنتجاتها وسط احتفاء وقهقهات الجماهير الراغبين فى الانتقام من أبطال المسرحية المذكورة وهكذا تحول الأمر إلى حملة انتقام شعبوية رخيصة لم يتم عمل ربعها ضد مجرمى الحرب فى إسرائيل، وهكذا أصبح بيومى فؤاد وشركاؤه فى العمل هم العدو المراد الانتقام منه لا نتنياهو وحكومة حربه المسعورة والمتعطشة للدماء!
• • •
للأسف إن مثل هذه الحملات الشعبوية تعبر عن مدى القصور والأزمات النفسية والعقلية التى تنتاب الجماهير فتدخلها فى معارك فى الاتجاه الخاطئ ضد الأشخاص الخطأ وفى التوقيت الخطأ، فيتم تفريغ القضايا من مضمونها ــ كما هى عادة تاريخنا العربى ــ حيث ننجر إلى معارك وهمية نتصور فيها انتصارات ساحقة على أعداء وهميين، فندخل إلى فراشنا لنخلد للنوم شاعرين بسعادة الانتصار الوهمية بينما هى فى الحقيقة مجرد حالة نفسية تعبر عن بؤس واقعنا وفقر إدراكنا وعجزنا عن مواجهة أعدائنا الحقيقيين!
تطرح هذه الحملة الظالمة السؤال حول الضحك والكوميديا وقت الأزمات، كما تطرح مسألة ازدواج المعايير التى لا يبدو أن الغرب وحده هو من يعانى منها، كما أنها تطرح أسئلة أخرى متعلقة بالكيفية التى يمكن لنا فيها أن نسير فى الحياة دون ادعاءات فارغة بينما نواصل تعبيرنا عن التضامن مع القضايا العامة التى تهمنا!
أما عن الكوميديا، فهى فى النهاية فن، كما هى التراجيديا، وكما هو «الأكشن» وكما هو الرسم، وكما هو الشعر، وكما هو النثر.. إلخ. العلاقة بين الفن والأزمات والحروب علاقة أبدية ولا يمكن فصلها أبدا! بل إن هناك أنواعا من الفنون تطورت بفعل الأزمات والحروب والكوارث، فالفن فى النهاية إبداع وتعبير إنسانى عن الواقع بحلوه ومره، وهو بهذا المعنى ليس رفاهية، وليس استهزاء بالظروف المحيطة، بل هو فى الواقع رد فعل ذكى للتعامل معها والتعبير عن مواقف بخصوصها! هناك تاريخ طويل للشعوب العربية والغربية فى تطوير الفنون وقت الأزمات ولم يكن هذا أبدا شيئا مستنكرا ولا مرفوضا، ولا أعلم أين ومتى تحول ليكون وصمة عار يتبرأ منه الفنان!
نعم لم أشاهد هذه المسرحية المذكورة ولا أعرف حتى قصتها، وكل ما أعرفه أنها مسرحية كوميدية، لكنى لا أعتقد أن من قاد وشارك فى الحملة المسعورة ضدها وضد القائمين على العمل فيها قد شاهدها أو عرف قصتها، لكنها المواقف السهلة التى تدعى الفضيلة وتستسهل اتخاذ المواقف الحنجورية والمزايدات الفارغة كوسيلة للتطهر وكحيلة نفسية لمواجهة الهزائم! وبالتالى أنا هنا لا أقيم العمل، ولكنى أتحدث عن المبدأ، الكوميديا فن وليست «مسخرة» فلا يجب أبدا إدانة من يقدمها بغض النظر عن الظروف المحيطة، وبغض النظر عن مدى جودة العمل أو رداءته!
أما عن النفاق وازدواجية المعايير فى هذه الحملة فحدث ولا حرج! نفس هؤلاء الذين شاركوا فى هذه الحملات تابعوا وتحمسوا لمباريات كرة القدم الخاصة بالنادى الأهلى أو نادى الزمالك أو المنتخب المصرى خلال الفترة الماضية! لم يسأل هؤلاء المنافقون والمزايدون أنفسهم عن الفرق بين تشجيع فريق كرة وقت الحرب وبين الاشتراك فى عمل مسرحى أو مشاهدته! فالكرة فى النهاية نوع من أنواع الترفيه وليست عملا بطوليا، فلماذا لم يدينوا أنفسهم أو يدينوا اللاعبين الذين اشتركوا فى هذه المباريات طالما أن الترفيه مرفوض واستهتار بدماء الأبرياء فى غزة؟!
والأهم من كل ذلك هو التساؤل عن مدى فهمنا لفكرة العمل حتى وقت الأزمات! مدى إدراكنا لأهمية الترفيه والتسرية عن النفس وقت الضغوط، ألم نشاهد صور الفلسطينيين أنفسهم وهم يقيمون حفلات أعياد الميلاد أو يغنون ويرقصون ويطلقون النكات على أطلال منازلهم المنهارة؟! هل هذا تعبير عن بلادة مشاعر أهل غزة أو تعبير عن خيانة دم أهلهم، أم أنه تعبير عن حاجة الإنسان النفسية والعصبية للترويح عن النفس حتى وقت الأزمات والكوارث؟
ثم من يملك الحق أصلا فى تحديد التضامن الصحيح من عدمه مع أهل فلسطين؟ من أدراك أن هذا الفنان أو ذاك بينما يضحك جمهوره هو لا يدعم غزة؟ هل تعرف أسراره؟ هل أنت مطلع على ما فى قلبه؟ هل تعرف ما إذا كان قد تبرع بالدم أم لا؟ تبرع بالمال لدعم وإعادة إعمار غزة المدمرة أم لا؟ للأسف نحن أصبحنا نحب المظاهر ونركن إلى الادعاءات العلنية كوسيلة للحكم على الصحيح والخطأ وهى ليست فقط أزمة نفسية، ولكنها أزمة أخلاقية أيضا، علينا مراجعة أنفسنا قبل أن نتمادى فيها فنخطئ الطريق كالعادة وندفع الناس للنفاق كوسيلة لإسعاد وإسكات الجماهير على حساب التحيز للقضايا فنساهم دائما فى خلق عالم منافق خاص بنا!
لم يخطئ الفنان محمد سلام عندما اعتذر عن العمل، لأنه لم يشعر بالقدرة على تقديم هذا النوع من الفن فى هذه الظروف وهذا حقه تماما، ولكن وبالمثل لم يخطئ أى ممثل آخر قرر الاستمرار فى العمل، فهذا حقهم وهذا عملهم ولا أحد غيرهم يقرر ما الصحيح وما الخطأ طالما أنه ليس فى مكانهم، ولا علاقة لهذا ولا لذاك بالانتصار لأهل غزة أو خذلهم!

أحمد عبدربه أستاذ مشارك العلاقات الدولية، والمدير المشارك لمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة دنفر