ــ 1 ــ
منذ أسابيع قليلة، وهنا فى (الشروق) كتبت عما أسميته «ظواهر سلبية فى حياتنا الإبداعية»؛ عرضت فيها لنماذج من طوفان ظواهر سلبية بل شديدة السوء والتردى والانحطاط تكاد تحاصرنا من كل جانب. يأتى على رأس هذه الظواهر الهرولة المحمومة للبحث عن الكسب بأى طريقة وأى وسيلة حتى لو كان على حساب تسليع الكتب، وتسليع المعرفة وتسليع الثقافة، وتسليع الإنسان ذاته!.
من هنا عرضنا لنماذج من شيوع ما يسمَّى بعروض الكتب المصورة لأفرادٍ لم تستقم ألسنتهم، ولم تكتمل ملكاتهم اللغوية ولا الأدبية ولا الفكرية ولا الثقافية ولا أى شىء.. رأسمالهم المرعب هو عدد المتابعين لصفحاتهم وفيديوهاتهم وتسجيلاتهم ومحتواهم الفج المبتذل.. إلخ.
ــ 2 ــ
لكن ورغم هذا السوء وهذه الرداءة التى تحاصرنا من كل جانب تومض «نقطة نور» من هنا أو هناك.. نقطة نور حقيقية تمثل النموذج الذى نطمح إليه أو نتمناه (أو أتمناه أنا عن نفسى) نموذجَ احترام القيمة، نموذجَ التحضر الواعى والمهنى والاحترافى لعملٍ تثقيفى حقيقى وجاد، وتقديم محتوى معرفى أصيل، وهو ما سمعته بأذنى فى بود كاست «الساعة 25» للكاتبة والباحثة الدءوبة والناشطة الثقافية المستنيرة سلمى أنور.
كانت سعادتى غامرة وأنا أستمع بكل شغف واستمتاع إلى حلقتها التى خصصتها للحديث عن كتاب «خريدة القاهرة» للكاتب والباحث التاريخى المنقب عن الروائع والنوادر والكنوز حامد محمد حامد. وقد كتبت سابقًا عن حامد، واعتبرته من أنبه وأنبغ أبناء جيلى الذى تواضعنا على تسميته مجازًا بجيل الثمانينيات (أى مواليد النصف الثانى من السبعينيات والنصف الأول من الثمانينيات).
ــ 3 ــ
جاء العرض ممتعًا بكل وسائل الإمتاع والتشويق دون التخلى عن شرط الإجادة والضبط والإحكام أيضًا! فالصوت واثق ممتلئ بالحضور والفخامة، اللغة منضبطة رائعة بلا تزيد ولا تكلف ولا تقعر ولا تنفير، لغة تراوح بين الفصحى الموقعة الرصينة، والعامية الفنية اللذيذة مرصعة بالاستشهادات النصية الموظفة بإتقان وفى مواضعها تماما.
وقد استمعت إلى هذه الحلقة التى لا تزيد على خمس عشرة دقيقة مرتين، مرة للمتعة الخالصة كنسمة باردة فى هذا القيظ، بحضور الصوت الممتلئ الواثق الفخيم. ومرة للانتباه والتوقف عند مواضع وإشارات من الكتاب، وعن الكتاب، أو فى تقاطع موضوعه مع كتب أخرى. وكانت النتيجة أننى استعدت متعة إعادة قراءة الكتاب والتوقف عند المواضع التى أشرتِ إليها أو أبرزتيها فى الحلقة.
هذا نموذج أحيا الأمل بداخلى مرة أخرى بأنه يمكن أن نواجه الرداءة والركاكة والمباهاة بالجهل والفظاظة، نواجهها كلها بالمعرفة الحقيقية وبالأصالة وبالجمال أيضًا..
ــ 4 ــ
ما الذى سيخرج به مستمع هذا البود كاست عقب الانتهاء منه؟
فى تقديرى المتواضع، يحقق هذا التسجيل عدة أهداف:
أولها هو التحريض المشوق المحفز على البحث عن الكتاب وقراءته، وهذه غاية نبيلة أنفقتُ فيها على المستوى الشخصى أكثر من عشرين سنة. أعتبر أن التحريض على القراءة والبحث عن الكتب والدعوة إلى قراءتها غاية الغايات فى هذا الزمان (أخرجت فى هذه الدائرة أكثر من كتاب ربما كان أشهرها وأذيعها «شغف القراءة»، و«مشاغبات مع الكتب»..).
أما الهدف الثانى: فهو وضع الكتاب وموضوعه (من تاريخ القاهرة) ضمن سياقه المعرفى وإطاره النوعى الذى ينتظم غيره من الكتب والجهود، وبالتالى سيكون الحديث عن كتاب حامد محمد حامد «خريدة القاهرة ـ شىء من سيرة الأماكن والأشخاص» مدخلًا للحديث عن تاريخ المدينة الساحرة، القاهرة وحضورها وأساطيرها، ونظرة أهلها إليها.
وثالث هذه الأهداف: حضور الأداء الصوتى ورصانته وظهوره الفخيم الذى يذكرنا بالعصر الذهبى لإذاعتنا المصرية فى ذروة ألقها وتألقها، إعدادًا وأداء وتقديما، اسمع معى ما تقوله سلمى فى افتتاحية حلقتها من بود كاست «الساعة 25» (عنوان حلقاتها):
«وفى حلقة اليوم جولة فى مساحة خاصة جدًّا تخص القاهرة.. المساحة التى قرر المصريون فيها أن يحكوا تاريخ المدينة على مقاس خيالهم، فعجنوا التاريخ بالأسطورة والحواديت العابرة للمكان والزمان، إلى أن وصلت لنا حكاية متعددة الطبقات للمدينة العجيبة هذه.. المدينة التى ولدت وعشت عمرى فيها، وما زلت أتعرف عليها.. إلخ». وسأترك لك مساحتك الكاملة عزيزى القارئ كى تستمع وتستمتع بنفسك بهذا الأداء الممتع.
ورابع هذه الأهداف وآخرها: فإعادة الاعتبار ــ أخيرًا ــ إلى المدرسة التى تعتمد مبدأ الإجادة وعدم التنازل عن مقوماتها، ومبدأ التحضير وعدم الاستهانة بالتفاصيل، والقراءة المستوعبة لموضوع الحلقة، وعنها أيضًا، والتمكن الراسخ من الأدوات اللازمة، بل والعمل على اكتساب المهارات اللازمة لأداء هذا العمل المحكم كى يخرج فى النهاية بصورةٍ جميلة وممتعة ودقيقة، ويمثل بذاته «قيمة» وليس «هَرجا» ولا «تهريجا» ولا استخفافا ولا تسطيحا ولا ابتذالا ولا ركاكة.. ولا كل ما يدخل هذه الدائرة السيئة التى فرضت نفسها ورداءتها علينا بكل وقاحة وتبجح وشراسة أيضا!
تحية تقدير لسلمى أنور (ولكل سلمى فى كل مكان لم نكتشفها بعد أو نستمع إليها) ولما تقدمه من جهد أتمنى أن يجد ما يكافئه من الحضور والانتشار وعمق التأثير وبعد الأثر.