بعد أن تسيدت العالم طويلا، بدأت الإمبراطورية العثمانية تفقد توازنها تدريجيا مع نهاية القرن السابع عشر واستمر هذا التدهور خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
فى هذه الحقبة الطويلة نسبيا كانت قوة الخلافة تتهاوى تدريجيا حتى تفوقت عليها إمبراطوريات كثيرة كانت تخشاها وتخضع لشروطها مثل الإمبراطورية الفارسية والفرنسية والإنجليزية والنمساوية / المجرية والروسية.
يداعب الخيال الشعبى بل وأحيانا خيال بعض المثقفين أن ملخص هزيمة الخلافة العثمانية هى أنها «دولة إسلامية مفترى عليها»، أو أن مصطفى كمال أتاتورك (مؤسس تركيا الحديثة) هو من أصل يهودى وأن الحركة الصهيونية هى من تآمرت على العثمانيين المسلمين لتفتيت وحدتهم ووحدة المسلمين! والحقيقة أن ــ وبعيدا عن المساجلات غير العلمية بين التيار العلمانى والإسلامى فى العالم العربى ــ مثل هذه الافتراضات غير دقيقة بالمرة وتختصر تاريخ طويل من الانهيار العثمانى التدريجى.
الحقيقة أن هذه الإمبراطورية القوية لا يمكن اختزال أسباب سقوطها فى نقطة أو اثنين وهى الحلول السهلة المريحة لمن لا يريد تحمل آلام الحقائق التاريخية، ولكن هناك أسبابا كثيرة وراء هذا التراجع، ولكن وقبل أن نسرد هذه الأسباب، فهناك ملاحظتان هامتان لتأطير الحديث عن سقوط العثمانيين وضبط طرق تفسير أسبابه.
الملاحظة الأولى، أنه ومنذ نهاية القرن السابع عشر وحتى وصول الخليفة عبدالحميد الثانى إلى قيادة الخلافة العثمانية، لم تكن تتصرف الدولة العثمانية باعتبارها «خلافة إسلامية» بقدر ما كانت تتصرف باعتبارها «أمة تركية»، فقد تراجع البعد الإسلامى الواضح فى سياسات الدولة العثمانية والذى كان مميزا لها منذ نشأتها ولم يتم إحياء هذا البعد مجددا سوى مع وصول عبدالحميد الثانى إلى الحكم ومحاولة إعادة إحياء الهوية الإسلامية للدولة العثمانية وهو ما كان متأخرا كثيرا ولم يساعد الدولة العثمانية على البقاء طويلا أو استعادة مكانتها كما أراد عبدالحميد. وبالتالى الإصرار على وصف الخلافة بالدولة الإسلامية التى تم التآمر عليها ربما لا يكون دقيقا كثيرا إلا لو اختزلنا تاريخ العثمانيين الطويل فى فترة حكم عبدالحميد الثانى وهو قطعا أمر غير دقيق.
أما الملاحظة الثانية، فهى أن وصف التوسعات الأوروبية على حساب العثمانيين «بالمؤامرة» يستوى مع وصف سيطرة المسلمين على القدس بالاحتلال! بعبارة أخرى عدم فهم طبيعة قيم هذه العصور واستيعاب طريقة تفاعلاتها السياسية والعسكرية هو ما يؤدى إلى هذه الافتراضات المخلة بالمنطق، ذلك أنه لا معنى مثلا للحديث عن «احتلال» المسلمين للقدس وطرد أهلها من الصليبيين أو اليهود «الأصليين» فى عصر لم يكن يعرف سوى معانى الاحتلال والسيطرة وفرض النفوذ بالقوة، فى وقت لم يكن فيه أصلا أى معنى للحديث عن أن «الصليبيين» هم أصل القدس إلا لو كان المتحدث من المتصهينين! ذلك أن الصليبيين أيضا كانوا محتلين وافتراض أن المدن كانت تحكم بسكانها الأصليين فى هذا العصر هو افتراض ساذج فى وقت ساد فيه المنطق الإمبراطورى التوسعى، وبالمثل فإن الحديث عن «مؤامرة أوروبية» لا يعى أن هذا العصر كان عصر التحالفات والمؤامرات من أجل السيطرة، فكما تآمرت أوروبا ضد العثمانيين تآمر العثمانيون ضد الأوروبيين بالمثل، بل وفى خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر فإن العثمانيين كثيرا ما اتحدوا مع من تآمر ضدهم بشكل مرحلى للحصول على بعض المكاسب أو لاستغلال بعض الانشقاقات الأوروبية (الروس والإنجليز والفرنسيين والنمساويين مجرد بعض الأمثلة هنا)، بل إنه لا يمكن أصلا فهم تفوق الإمبراطورية العثمانية إلا فى ضوء استغلال الانقسامات السياسية والدينية فى أوروبا خلال الفترة من القرن الرابع عشر وحتى القرن السابع عشر.
***
فما هى إذن أسباب سقوط الدولة العثمانية؟
لا يمكن الحديث بثقة أو بحسم تام لسقوط إمبراطورية كبيرة مثل هذه، لكن يمكن التماس بعض الأسباب على النحو التالى:
أولا: كان لصلح ويستفاليا دور كبير فى إنهاء وتحجيم الصراعات الدينية فى أوروبا وإعطاء قوة أكبر للدولة القومية وسلطاتها المركزية. هذا الصلح قلل فرص الدولة العثمانية من اتباع تكتيكها المفضل الدى استخدمته طوال قرون صعودها فى استغلال الخلاف بين الكاثوليك والبروتستانت. بيد أن صلح ويستفاليا لم يتوقف فقط عند الصلح الدينى ولكن وضع بذور استقرار قومى ساعد أوروبا فيما بعد للتركيز على نهضتها الثقافية والتى ساهمت بعد ذلك فى نهضتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
ثانيا: كان للثورات السياسية فى أمريكا وأوروبا دور كبير فى إحداث فروق كبيرة بين الإمبراطورية العثمانية وباقى الدول الأوروبية، ذلك أن أفكار الحرية والديمقراطية (على محدودية معنى الديمقراطية وقتها)، ساهمت فى إرساء قيم المواطنة والحقوق والحريات والقوانين والتمثيل السياسى والنيابى وكلها أمور لم تتمكن أبدا الدولة العثمانية من اللحاق بها فظلت محافظة على طبيعتها الإمبراطورية وعلى تفرقتها بين رعاياها وبين أعراقها مما أدى إلى تأخر كبير عن اللحاق بالحداثة والتقدم والنهضة الأوروبية.
ثالثا: تواكبا مع الثورة السياسية فى أوروبا كانت هناك أيضا الثورة الصناعية، وهى الثورة التى أحدثت فروقا كبيرة بين الدولة العثمانية وبين الدول الأوروبية من حيث تفوق السلاح الأوروبى نتيجة لهذه الثورة من ناحية، ومن حيث تزايد المساحات الحضرية والتنظيمية فى الدول الأوروبية مقارنة بتأخر عثمانى وعدم القدرة على اللحاق بالتأسيس والتنظيم الحديث للدول من ناحية ثانية، فالمؤسسات الحديثة من اتحادات عمال ونقابات وأحزاب سياسية وبرلمان انتشرت فى أوروبا وهو ما لم يتمكن العثمانيون من مجاراته مما جعلها متخلفة سياسيا واقتصاديا وإداريا بمعايير هذا العصر.
وأخيرا وليس آخرا، فإنه ومن ناحية أخرى تدهور الجهاز الإدارى العثمانى وساد الفساد بين الولاة الذين أهملوا السكان المحليين مما أدى إلى زيادة الغضب والثورات والقلاقل على الباب العالى فى إسطنبول، ومع عجز معظم السلاطين عن التعامل مع هذه التحديات أخذت الدولة العثمانية فى التهاوى التدريجى!
***
بدأت الدولة العثمانية ونتيجة لهذه الأسباب فى خسارة العديد من البلدان فى شرق ووسط أوروبا والبحر المتوسط، فضلا عن مصر والشام وشمال إفريقيا، وفى مقابل ذلك بدأت فرنسا وإنجلترا فى التوسع فى إفريقيا وآسيا والشرق الأوسط، فى وقت انشغل فيه العثمانيون فى مشاكلهم الداخلية، فضلا عن تورط العديد من السلاطين العثمانيين فى الإفراط فى الانفاق العام على الحاشية والمقربين والملذات والعيش فى حياة البذخ والإسراف بلا مسئولية ولا محاسبة مما أدى إلى المزيد من التدهور حتى جاء عبدالحميد الثانى محاولا محاولة جادة للإنقاذ، وهو أمر نتناوله فى مقالة قادمة.
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر.