لماذا تمتلك الدولة فنادق وشركات تأمين؟! سؤال وجّهته للسيد رئيس الوزراء فى أولى جلسات مناقشة وثيقة سياسة ملكية الدولة، والرد كان مناسبا عبر الإعلان عن طرح أبرز تلك الشركات للقطاع الخاص.
عند الإعلان عن أى برنامج لطرح أسهم عدد من الشركات المملوكة للدولة، عادة ما تعلو بعض الأصوات الرافضة للبيع من حيث المبدأ بصرف النظر عن الأداء المالى والسوقى لتلك الشركات، ومدى تحقيق الدولة لأهداف تنموية من ملكيتها لكامل أو جانب من أسهمها! وبعيدا عن صحة أو خطأ ذلك الرفض المبدئى الذى يتعارض مع النظرية الاقتصادية والتطبيق العملى على السواء، دعونا ننظر إلى الأمر بشكل موضوعى غير منحاز، نحلل السياق العام، والمبررات التى اعتمدتها الدولة لهذا الطرح، وكيف يمكن أن نعظّم الاستفادة منه.
الشركات التى تعرضها الدولة فى إعلانها الأخير للطرح على القطاع الخاص، سواء عبر الطرح العام أو الخاص فى البورصة، أو من خلال البيع لمستثمر استراتيجى متخصص فى النشاط ذى الصلة، هى شركات تنتمى لقطاعات اقتصادية متنوعة، من تعدين، لصناعات معدنية، لخدمات لوجيستية ونقل، وتأمين، وفنادق، وبنوك، وهى شركات يمكنها جميعا أن تؤدى بشكل أفضل لو تم طرحها كليا أو جزئيا على القطاع الخاص، وذلك بعد تحليل مؤشرات أدائها، ومقارنتها بالشركات العاملة فى ذات الأنشطة سواء داخل مصر أو خارجها.
البرنامج الأخير يأتى فى سياق عالمى مضطرب بالأحداث الجسام، التى تؤثر سلبا على معدلات النمو والتضخم والبطالة، وتنذر بتباطؤ اقتصادى ممتد باستمرار مسببات الأزمات، سواء الحرب فى القرم، أو إغلاقات وتوقفات كوفيدــ19 وخاصة فى الصين، أو استمرار البنوك المركزية فى اتباع سياسات التشديد النقدى، وما يستتبع ذلك من أزمات فى منتجات الطاقة وحركة التجارة وسلاسل الإمداد.. كذلك يأتى هذا الطرح فى ظل ندرة دولارية كبيرة فى مصر، وعجز متزايد فى الميزان الخارجى، وفجوة تمويل بالعملة الصعبة سواء لاحتياجات الاستيراد أو لخدمة الدين الخارجى خلال الأعوام القليلة القادمة، مع ضرورة ملحة لرفع كفاءة الإنتاج المحلى للحد من الاعتماد على الاستيراد والديون، وكذلك ضرورة توفير مصادر تمويل لاحتياجات التنمية بعيدا عن الدين، مع استبدال الدين بأسهم الملكية فى مشروعات قائمة أو مخططة، بحيث يصبح الدائن شريكا فى المشروع، حريصا على استمراره وربحيته، ولا يشكّل عبئا إضافيا على كاهل الموازنة العامة للدولة. تلك النظرة أتى على ذكرها صندوق النقد الدولى فى تقريره الأخير المرافق لقرضه لمصر، وكذلك وكالات التصنيف الائتمانى فى استشراف نظرة مستقبلية مستقرة للاقتصاد المصرى.
كذلك يأتى مشروع الطرح الأخير لأسهم تمتلكها الدولة فى 32 شركة دفعة واحدة (وفى عام واحد) محققا لمخطط عام تبنته مصر مع إصدار وثيقة سياسة ملكية الدولة، والتى تعهدت خلالها بإفساح المجال أمام القطاع الخاص، وعدم مزاحمته، وتحقيق التنافس الحيادى العادل مع المال الخاص فى القطاعات التى تعتزم الدولة البقاء فيها، وذلك كله من خلال التخارج الكلى أو الجزئى أو حتى زيادة ملكية الدولة (فى حالات نادرة) فى عدد من الشركات، خلال مدى زمنى يتراوح بين ثلاث وخمس سنوات. ولأول مرة تمتد فكرة توسيع قاعدة الملكية، ودخول المال الخاص بقدراته الإدارية والتنظيمية الأفضل والأقدر على الحوكمة، فى شركات تمتلكها أذرع للدولة بخلاف قطاع الأعمال العام، حيث تشتمل خطة الطرح لأول مرة على شركتين مملوكتين لجهاز الخدمة الوطنية التابع للقوات المسلحة.
• • •
الأصوات الرافضة للطرح عادة ما تبرر ذلك بأن الدولة تفرّط فى المال العام، أو أن برامج الخصخصة السابقة لم تنجح بشكل كامل، أو أن الحكومة تتخارج من شركات رابحة تدر عليها أموالا كثيرة، أو أنها تفرّط فى حق المستهلك فى أن توازن الدولة قوى السوق ببقائها مالكة لعدد من المشروعات، أو أنها تفرّط فى حق العمال لصالح المستثمر الأجنبى، أو أنها تهدد الأمن القومى بدخول مستثمرين أجانب فى ملكية أصول حيوية، أو أنها تستخدم إيرادات بيع أصول لتمويل احتياجات جارية.. وهنا نحاول الرد على تلك الدعاوى.
بداية، الشركات المزمع طرحها للمستثمرين، مملوكة للدولة ملكية خاصة وليست ملكا عاما للشعب مثل قناة السويس مثلا، الأمر الذى يؤكد على حقيقة أن التفريط فى ممتلكات الشعب ليس فقط غير وارد بل هو غير ممكن بحكم الدستور والقانون. إذن الأسهم التى تحاول الدولة إعادة هيكلة ملكيتها بشكل يحسن أداءها ويحقق أهدافها هى ملك خاص، تراكمت أصوله عبر سنوات طوال كانت فيها فلسفة الحكم أكثر ميلا إلى الفكر الاشتراكى، الذى يجعل الدولة طرفا فى ملكية عناصر الإنتاج، ومتحكما فى الأسواق والأسعار والتوزيع. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتى وتحوّل كبرى الدول الاشتراكية إلى نظام السوق بدرجات متفاوتة، أصبح من غير المنطقى استمرار الدولة فى العبث بجهاز الثمن فى السوق، من خلال إضرارها بقوى العرض والطلب، وغياب حافزى المنافسة والربحية المحرّكين للقطاع الخاص عن المشروعات المملوكة للدولة.
لذا فقد عملت حكومات مصر منذ تسعينيات القرن الماضى على خصخصة عدد من المشروعات، التى منها ما لم يكن موفقا بنقله إلى مستثمر خاص. عدم التوفيق ليس عيبا فى النظرية بل هو خلل فى التطبيق، ذلك لأن الكثير من برامج الخصخصة فى دول شرق أوروبا كانت ناجحة للغاية. أما الزعم بأن الحكومة تتخارج فقط من الشركات الناجحة فهو أمر غريب، فهل ينبغى أن يقتصر البيع على الشركات الخاسرة بحيث يتم بخسها أو الترخّص فى شروط بيعها، أو ذهابها إلى من لا يحسن إدارتها، أو فقدانها لمقومات النجاح بشكل هيكلى يجعل مهمة المستثمر الخاص مستحيلة، وفى ذلك هناك مثل غربى يقول ما معناه: أنك تهدينى سمكة ميتة، فلا شىء يمكن أن تصنعه بتلك السمكة سوى طهيها وأكلها، لأنه مستحيل أن يتم تعويمها مجددا.
أما القول بأن الدولة تفرّط فى حق المستهلك حيث تتركه فريسة للقطاع الخاص، فهو دفع غير اقتصادى؛ لأن مصلحة المستهلك تأتى من تحقق المنافسة الكاملة فى الأسواق، بوجود عدد كبير من البائعين والمستهلكين، وهذا لا يستلزم تدخّل الدولة بالإنتاج والتوزيع، بل إن هذا التدخل يخل بشروط المنافسة، فقط يكفى أن تنظّم الحكومة تلك المنافسة من خلال أجهزتها مثل جهاز حماية المنافسة وجهاز حماية المستهلك، وأن تحول دون الممارسات الاحتكارية أو الإضرار بالمستهلك. كذلك من الملفت أن الحصة السوقية للدولة فى الأنشطة التى يتم طرحها ليست حاكمة، وربما ليست مؤثرة على الإطلاق، وبالتالى فإن تخارجها بصورة جزئية أو حتى كلية لا يتوقع أن يحدث ارتباكا فى سوق السلع والخدمات المطروحة.
أما عن حقوق العاملين، فالقانون ينظّم التعامل مع العاملين وتعويضهم حال الاستغناء عن خدماتهم لأسباب فنية أو مالية، وكذلك اتفاقات البيع لمستثمر استراتيجى تضع قيودا على تسريحهم أو الإضرار بمصالحهم. حينما كنت رئيسا للشركة القابضة للصناعات المعدنية، كنت حريصا على التواصل المباشر مع العاملين، كانت مطالبهم غير فئوية ولا علاقة لها بنوع ملكية الأصول، فكل ما كان يعنيهم هو استمرار العمل وتطوير قدرات الإنتاج والتشغيل وتحديث خطوط الإنتاج.. وكل ذلك مشروط بتوافر التمويل ونية الإصلاح والتحديث، والتى تتوافر بشكل أفضل عند المستثمر الخاص المطّلع على أحدث التقنيات، والمهتم بزيادة الإنتاجية لتحسين ربحية المشروع.
أما الزعم بأن البيع لأسهم بعض الشركات يهدد الأمن القومى للبلاد، فهذا أمر غير وارد لأن البيع لا يصنع احتكارات أو تركيزا لاستثمارات فى يد مستثمر بعينه أو مستثمرين من بلد واحد، وهذا ما يتعين على الحكومة مراعاته دائما. كذلك تنتبه الدولة إلى خصوصية بعض المشروعات الاستراتيجية، سواء من حيث طبيعة النشاط أو الموقع أو الدور التنموى الذى تلعبه. وهذا واضح فى وثيقة سياسة ملكية الدولة، وفى القوانين الخاصة الحاكمة لتلك الأنشطة والمواقع ذات الخصوصية.
• • •
حصيلة البيع للأسهم ليست الهدف الأسمى للبيع، ومن ثم القلق من استنزافها فى مصروفات جارية هو خوف مشروع، ولكنه لا يتعارض مع كون تلك الإيرادات هى مجرد عائد إضافى يجب أن يحسن استغلاله، وتظل الأهداف الأسمى هى تحسين تنافسية الأسواق، وتعزيز القطاع الخاص، وتحسين الحوكمة وكفاءة الإدارة والتى لا تأتى إلا مقترنة بملكية خاصة، نظرا لعدم جدوى خصخصة الإدارة منفردة فى مختلف التجارب السابقة، وندرة المستثمر ذى الملاءة والقدرة الذى يكتفى بعائد جانبى للإدارة فقط.
فى الختام علينا أن نعى فلسفة قانون قطاع الأعمال العام الصادر برقم 203 لسنة 1991 قبل تعديله أخيرا بالقانون 185 لسنة 2020، حيث ترتكز تلك الفلسفة على تحويل الشركات القابضة فى هذا القطاع إلى شركات إدارة أصول لا تعنى بالنشاط الفنى للشركات التابعة، وتحكمها جمعيات عمومية بعيدا عن التدخل الحكومى. وبتفعيل فلسفة القانون يمكن أن تتحول الشركات القابضة من حيث التنظيم والهيكلة والكفاءات إلى شركات متخصصة فقط فى إدارة الأصول، فتساعد الصندوق السيادى وشركات إدارة الأصول الخاصة فى تلك المهمة الصعبة، التى تنتهى بتخارج الدولة من عدد كبير من الشركات خلال مدى زمنى قصير نسبيا.