سلاح العقوبات الاقتصاديّة.. تاريخٌ طويل عمره من عمر الحروب بين الأُمم - العالم يفكر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 6:50 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سلاح العقوبات الاقتصاديّة.. تاريخٌ طويل عمره من عمر الحروب بين الأُمم

نشر فى : الأربعاء 13 يوليه 2022 - 7:40 م | آخر تحديث : الأربعاء 13 يوليه 2022 - 7:45 م
نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب محمد دياب بتاريخ 11 يوليو تناول فيه تاريخ العقوبات الاقتصادية منذ العصور الإغريقية حتى وقتنا الحالى، بالإضافة إلى مناقشة مدى تأثير تلك العقوبات كأداة من أدوات الحرب الصامتة.. نعرض منه ما يلى.
منذ أن بدأت روسيا عمليّتها العسكريّة فى أوكرانيا وهى تتعرَّض لموجةِ عقوباتٍ اقتصاديّة غير مسبوقة من حيث لائحة العقوبات المفروضة أو عدد الدول المُشارِكة فيها أو شمولها مكوّناتٍ سياديّة وقطاعاتٍ اقتصاديّة وماليّة عامّة وخاصّة، وكذلك السرعة الفائقة التى يتتالى فيها فَرْضُ رزمِ العقوبات.
ما يجرى بمثابة حربٍ اقتصاديّة خاطفة الهدف منها شلّ الاقتصاد الروسى ومن ثمّ تقويض أُسسه وإمكانات مقاومته، كوسيلةٍ ناجعة فى رأى الدول الغربيّة لإلحاق هزيمةٍ ساحقة بروسيا اقتصاديّا وعسكريّا وجيوسياسيّا.
سنُحاول فى مقالتنا هذه تقديم مُطالَعة استعاديّة سريعة لتاريخ ظاهرة العقوبات الاقتصاديّة على مرّ العصور.
سلاح العقوبات قديما: من أثينا وحتّى نابليون
يرى بعض المؤرّخين الاقتصاديّين أنّ تاريخ أولى العقوبات الاقتصاديّة يعود إلى العصور الإغريقيّة. وذلك عندما أَصدرت الجمعيّة العامّة فى أثينا ما سُمّى «المرسوم الميغارى» الذى مُنع تجّار مدينة ميغارا بموجبه من المُتاجَرة فى الأسواق الأتيكيّة ودخول مرافئ الاتّحاد البحرى الأثينى. وكان ذلك بمثابة حصارٍ تجارى بحرى على المدينة. وقد حقَّقت تلك العقوبات نجاحا ملموسا فى البداية وأدَّت إلى إفقار ميغارا، ولكنّها كانت سببا من أسباب اندلاع حربٍ شعواء عُرفت بحرب البيلوبونيز بعدما لجأت ميغارا إلى التحالُف مع إسبرطة، كانت كلفتها باهظة على أثينا نفسها.
فى القرون الوسطى استُخدمت العقوبات على نطاقٍ واسع، ولكنّها كانت فى الغالب قصيرة الأمد، حيث كانت التحالُفات والعداوات بين الحُكّام سريعة التقلُّب. بيد أنّ العقوبات التى كانت تُفرض على الإمارات الروسيّة كانت استثناءً من هذه القاعدة. فالحَظْر الذى فرضته إمارات أوروبيّة على تصدير الموادّ الغذائيّة إلى إمارة نوفغورود الروسيّة لسنواتٍ طويلة ظلَّ من دون نتيجة.
اقترنَ ظهور الإمبراطوريّات العالَميّة بتطوُّرِ منظومة العقوبات الاقتصاديّة. فلم يَعُد الأمرُ يقتصر على حَظْرِ بيع الموادّ الغذائيّة أو السلاح، بل صار يشمل أيضا فرْضَ قيودٍ متشدّدة على بَيع الموادّ الأوّليّة لدولٍ ومناطق معيّنة. وفى القرن السادس عشر عمل التجّارُ الألمان على إعاقة وصول السفن البريطانيّة إلى السواحل الروسيّة تعبيرا عن سخطهم من تطوُّر التجارة بين روسيا وإنجلترا. وردّا على ذلك فَرَضَ القيصرُ الروسى عقوباتٍ مضادّة واستأجَر قراصنةً دانماركيّين عملوا على مُهاجَمة السفن الألمانيّة.
فى القرن التاسع عشر أصبح الحصار البحرى أداةً رئيسيّة فى مُمارَسة الحروب الاقتصاديّة. وأبرز مثال على ذلك الحصار البحرى المُشترَك الذى فرَضَتْه الأساطيل الروسيّة والبريطانيّة والفرنسيّة على حركة الملاحة العثمانيّة فى البحر المتوسّط. ومنذ ذلك الحين وحتّى بداية الحرب العالَميّة الأولى، استُخدم هذا النوع من الضغوط الاقتصاديّة أكثر من عشرين مرّة. والجدير بالذكر أنّ الإمبراطوريّة البريطانيّة كانت الأكثر نشاطا فى هذا المجال، واستخدمته بصورة خاصّة أثناء حرب الاستقلال الأمريكيّة.
سلاح «صامت» فتّاك
كانت الحرب العالَميّة الأولى محطّةً مفصليّة فى مجرى تحوُّل العقوبات الاقتصاديّة إلى أداةٍ فعّالة من أدوات السياسة الدوليّة. وقد اقترنَ ظهور مُصطلح «العقوبات» مع نشوء عصبة الأُمم بوصفها المُحاولة الأولى لإنشاء منظومةِ أمنٍ أُمميّة فعّالة. ففظاعة الحرب والخسائر البشريّة والماديّة الهائلة التى خلَّفتها أَرغمت رجالَ السياسة على الوصول إلى قناعة بأنّه من المُمكن خنْق العدوّ وشلّ قدرته على المُقاومة بوسيلةٍ أخرى غير الحرب.
كانت روسيا السوفياتيّة أوّل مَن أصابته سهام هذا السلاح «المُسالِم» فى العصر الحديث. ففى العام 1917 فَرضت الولايات المتّحدة عقوباتٍ على الجمهوريّة الفتيّة، ثمّ انضمّت إليها كلٌّ من بريطانيا وفرنسا وألمانيا فى العام 1919. بيد أنّ هذه العقوبات، التى أَعقبها تدخُّل عسكرى سافر، فشلت فى إسقاط حكومة البلاشفة. لذا لجأت الدول المذكورة فى العام 1925 إلى فرْضِ ما سمّى «الحصار الذهبى» على الاتّحاد السوفياتى، حيث فَرضت حَظْرا على التجارة معه لقاء الذهب. وبعد خمس سنوات فُرِض عليه حَظْرٌ تجاريّ كامل (استُثنيَت منه الحبوب). وبعد اندلاع الحرب مع فنلندا فى العام 1939، فُرضت عليه رزمة جديدة من العقوبات، من ضمنها منْع بَيع سِلَعٍ تدخل فى صناعة الطائرات. واستمرَّ هذا الحَظْرُ حتّى دخول الاتّحاد السوفياتى الحرب ضدّ ألمانيا الهتلريّة.
لم تكُن روسيا وحدها مَن تعرَّض للعقوبات. فقد فَرضتْ عصبةُ الأُمم فى العام 1925 عقوباتٍ على اليونان التى حاولت احتلال جزءٍ من بلغاريا، ما أَرغمها على التراجُع. وبعد عشر سنوات حاولت العصبة مُعاقبة إيطاليا جزاءَ الحرب فى إثيوبيا، ولكنّها فشلت فى ذلك نتيجة صعود الفاشيّة. أمّا فى إسبانيا فقد لعبت العقوبات التى فَرضت حَظْرا على إرسال الأسلحة إلى البلاد، دورا كبيرا فى هزيمة الحُكم الجمهورى الذى حُرم من وسائل الدعم، فى حين ظلّ نظام فرانكو يتلقّى هذا الدعم من الولايات المتّحدة وألمانيا وإيطاليا.
عقب الحرب العالَميّة الثانية أُنشئت منظّمة الأُمم المتّحدة كبديلٍ من العصبة، فلَجأت بدَورها إلى سلاح العقوبات، الذى استُخدم على نطاقٍ واسع فى النصف الثانى من القرن العشرين. وكانت الولايات المتّحدة الأكثر اندفاعا وعدوانيّة فى استخدام هذا السلاح، سواء عبر الأُمم المتّحدة أو كعقوباتٍ أميركيّة مدعومة من حلفائها الغربيّين فى الغالب. ففى العام 1960 فَرَضت واشنطن عقوباتٍ على كوبا، سرعان ما تحوَّلت إلى حصارٍ اقتصاديٍّ شامل لا يزال بشكلٍ أو بآخر قائما حتّى الآن، ويُعتبر الأطول فى التاريخ الحديث. صَمدت كوبا فى وجه الحصار بدعمٍ كبير من الاتّحاد السوفياتى، الذى لم ينجُ بدوره من سِهام العقوبات.
بدأت الضغوط الاقتصاديّة على الاتّحاد السوفياتى، الذى خَرَجَ مُنتصِرا من الحرب ولكنْ مُنهَك اقتصاديّا ومُهشَّم عمرانيّا وبشريّا. وما أن أَلقت الحرب أوزارها حتّى انطلقت الحرب الباردة فورا، وكان الهدفُ الرئيسى منها منْعَهُ من استعادة قواه وإعادة بناء اقتصاده وقوّته العسكريّة للحيلولة دون تحوُّلِه إلى قوّة عظمى مُنافِسة للولايات المتّحدة. ففى العام 1949 أُنشئت بمُبادرةٍ أمريكيّة «الوكالة التنسيقيّة للرقابة الشاملة على الصادرات»، وكانت مهمّتها فرْض قيودٍ شديدة تصل فى بعض جوانبها إلى حدّ الحَظْرِ التامّ على تصدير السلع والتكنولوجيا الاستراتيجيّة إلى الاتّحاد السوفياتى ودُول المُعسكر الشرقى. كان الهدفُ من ذلك كلّه ضمان تخلُّف الاتّحاد السوفياتى فى الميدانَيْن العسكرى والتكنولوجى، ما من شأنه تأمين تفوُّق حلف شمالى الأطلسى الاستراتيجى.
وداعا لعصر الأحاديّة القطبيّة!؟
فى الكثير من الحالات كانت العقوبات تهدف إلى إسقاط الأنظمة «المُشاغِبة» والمُتمرِّدة على الإدارة الأمريكيّة، أو مُحاصرتها وإضعافها لإرغامها على الرضوخ لهذه الإدارة. لذا كانت غالبيّة العقوبات التى فُرضت على العديد من البلدان «المغضوب عليها» إمّا عقوبات أمريكيّة مدعومة من حلفاء غربيّين واضطرَّت بلدانٌ عديدة فى العالَم للالتزام، وإنْ غير المُعلَن، بها خوفا من «القصاص» الأمريكى، وإمّا «أُمميّة» فُرضت بمُبادَرةٍ من واشنطن وبضغطٍ منها.
خلافا للعقوبات الفاعلة و«الناجحة» التى فُرضت حتّى نهايات القرن العشرين، نادرا ما صارت مثيلاتها فى العقدَين الأخيرَيْن تُحقِّق النتائج المرجوَّة منها. وقد يكون ذلك مؤشِّرا على ارتخاء القبضة الأمريكيّة وبداية انتهاء عصر الأحاديّة القطبيّة على المستوى الدولى. فقد عملتْ واشنطن فى السابق على إلزام الدول الأخرى (الحليفة وغير الحليفة) التقيُّد بالعقوبات المفروضة على البلد «المُذنِب»، حتّى ولو كان على حساب مصالحها الوطنيّة. وغالبا ما كانت العقوبات الأمريكيّة تتحوَّل إلى عقوباتٍ «أُمميّة» لا يستطيع أحد التفلُّت منها. بيد أنّ ما تشهده الحرب الاقتصاديّة الغربيّة على روسيا اليوم يُشير إلى تبدُّل صورة المشهد الدولى بصورةٍ جذريّة. فالسلاح الاقتصادى المرفوع فى وجهها اليوم يبقى سلاحا أمريكيّا ــ أوروبيّا حصرا. لقد عجزت واشنطن عن إرغام أى دولة من خارج «السرب» الغربى على الانضمام إلى حرْبها. ولهذا الفشل أسبابه. أوّلها، بالطبع، حجْم الاقتصاد الروسى نفسه والقدرات والموارد الاستراتيجيّة الهائلة التى يملكها وانخراطه العميق فى الاقتصاد المُعولَم، ما يجعل من المستحيل عمليّا عزْله عن الاقتصاد العالَمى، ونجاح القيادة الروسيّة فى شبْكِ علاقاتٍ واسعة مُثمرة ومتنوّعة، سياسيّة واقتصاديّة، مع الكثير من البلدان غير الغربيّة. والسبب الآخر الذى لا يقلّ أهميّة يكمن فى رغبة الكثير من الدول فى مختلف القارّات فى التفلُّت من الهَيْمَنة، وسعيها إلى إتباع سياسات اقتصاديّة تضع مصالحها الوطنيّة فى رأس أولويّاتها. كلّ ذلك، إلى جانب عوامل أخرى، يجعلنا نميل إلى الحديث عن بداية انتهاء عصر الأحاديّة القطبيّة تدريجا، والتحوُّل نحو عالَمٍ تسود فيه تعدديّة قطبيّة، سياسيّة واقتصاديّة، على المستوى الدولى.

النص الأصلى
التعليقات