مما لا شك فيه أن قضية تايوان ستمثل فى قادم الأيام محورا رئيسيا للأحداث فى منطقة الشرق الأقصى لعديد من الاعتبارات الجيوبوليتيكية والعسكرية والاقتصادية التى تعنى بها الصين، وهى الوطن الأم والبر الرئيسى الذى تتبعه جزيرة تايوان تاريخيا وحضاريا وثقافيا.
لكن عودة تايوان رسميا للانضواء تحت السيادة الصينية، ليست بالمسألة السهلة رغم إقرار العديد من الدول ومنها الولايات المتحدة نظريا وظاهريا بمبدأ الصين الواحدة، بينما تقوم عمليا بتعويق ذلك والحيلولة دون حدوثه، وليست الولايات المتحدة فقط، فاليابان تعتبر من أهم الدول الآسيوية الداعمة لتايوان غير المرتبطة بالصين، وكوريا الجنوبية التى تعتبر أنها ستكون فى موضع خطر بين تايوان تحت السيادة الصينية وكوريا الشمالية، كذلك الفيليبين فى ما يتعلق بحدودها الشمالية، ويبدو أن كل دول منطقة الشرق الأقصى باتت تعيد حساباتها فى ظل تعاظم القوة والنفوذ الصينى، ولكل منها أسبابها ودوافعها.
• • •
الصين فى ظل نموها الاقتصادى المستمر تحقق بالفعل خطوات جبارة فى مسيرتها لتكون قوة عظمى، ولذلك فهى تبدى أقصى درجات الصبر والتروى تجاه الاستفزازات الأمريكية فيما يتعلق بقضية تايوان، اعتبارا لمصالحها الاقتصادية والتجارية الضخمة مع الولايات المتحدة وأوروبا.
وعلى التوازى مع تلك الاعتبارات تدرك الصين أن إحدى الركائز الأساسية فى تحقيق حلمها كقوة عظمى يرتكز على التمكن من التكنولوجيا الراقية، وهو الأمر الذى تسير عليه الصين حثيثا فى جميع القطاعات التكنولوجية الصناعية والعسكرية، ولا سيما صناعة رقائق الحاسوب المتطورة وأشباه الموصلات.
وليست الصين فقط هى من تنتهج ذلك فالولايات المتحدة قد خصصت 52 مليار دولار لدعم وتطوير تلك الصناعة، والاتحاد الأوروبى من جهته يرعى استثمارات قيمتها 48 مليار يورو، فى محاولة للحاق بعملاقى تلك الصناعة وهما سامسونج الكورية الجنوبية وتايوان لصناعة أشباه الموصلات، أما اليابان التى كانت ذات يوم أكبر مصنع لرقائق الحاسوب المتطورة، فقد باتت الآن شبه معتمدة على كوريا الجنوبية وتايوان فى توريد جانب كبير من احتياجاتها من أشباه الموصلات، وأخذت الحكومة اليابانية فى تحديد مخصصات ضخمة لدعم تلك الصناعة، والتفاوض مع الشركة التايوانية لإقامة مصانع مشتركة فى اليابان.
ولا يغيب عن الذاكرة الصينية ما قامت به إدارة الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب بحظر توريد الرقائق الإلكترونية المتقدمة للصين، وحرمان شركة هواوى الصينية من الحصول على أنواعها المتقدمة من شركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، استجابة لقيود التصدير الأمريكية المشددة التى تهدف إلى الحد من وصول الشركات الصينية إلى إمدادات الرقائق المتقدمة، الأمر الذى أسفر عن مشكلات معقدة لهواوى أكبر شركة تكنولوجية فى الصين.
وفى ذات الوقت كانت إدارة ترامب قد اتفقت مع الشركة التايوانية لإقامة مصنع لها فى أريزونا باستثمارات 12 مليار دولار، كمقدمة لإقامة خمسة مصانع أخرى فى الولايات المتحدة، كما اتفقت مع سامسونج الكورية الجنوبية لإقامة مصنع مماثل فى تكساس باستثمارات 10 مليارات دولار.
وتدرك الصين أن الشركة والحكومة التايوانية تدور تماما فى الفلك الغربى، ولاسيما بعد قيامها أخيرا بحظر تصدير الرقائق الإلكترونية التى يزيد ترددها على 25 ميجاهرتز إلى روسيا وبيلاروسيا، كما أعدت وزارة الاقتصاد التايوانية قائمة بالمنتجات الاستراتيجية عالية التقنية التى يحظر تصديرها إليها، ويشمل الحظر تقنية المعالجات الدقيقة ذات مستوى سرعة خمسة جيجا فلوب أو أعلى، أو وحدة منطقية حسابية بسعة أكبر من 32 بايت أو تجاوز تردد ساعة المكون الإلكترونى 25 ميجاهرتز.
الوضع الدولى الراهن حول تايوان إذن يتعلق فى جانب هام منه بالشركة التايوانية، التى تنتج قرابة 90% من الرقائق الالكترونية فائقة التطور فى العالم، و50% من جميع أنواع الرقائق والتى تعتمد عليها عمالقة الصناعات التكنولوجية العالمية مثل آبل وكوالكوم وبرودكوم ونيفيديا وميكرون، فضلا عن الصناعات الفضائية والعسكرية وغيرها.
صناعة السيارات على سبيل المثال، حيث تحتاج السيارة الواحدة من 50 إلى 150 شريحة إلكترونية وتتوقف على تلك الرقائق 40% من مكونات السيارة، والخسائر السنوية الناجمة عن نقص تلك الشرائح الالكترونية لصناعة السيارات الأمريكية على سبيل المثال تقدر بنحو 100 مليار دولار، متضمنة توقف الإنتاج ونفقات إغلاق المصانع والبطالة وفقدان الأسواق.
وبينت أزمة كوفيد تداعيات تعطل سلاسل الإمداد العالمى من الرقائق الالكترونية وتأثيرها السلبى على قطاعات صناعية ضخمة فى جميع أنحاء العالم، لدرجة صدور تصريح عن وزيرة التجارة الأمريكية بأنه يتوجب على الولايات المتحدة أن تكون حذرة من فقدان رقائق تايوان حتى لا يتعرض اقتصادها لركود عميق وفورى.
• • •
الصراع التكنولوجى بات متصاعدا وعلنيا بين الأطراف الثلاثة الصين، والولايات المتحدة ومعها حلفائها، وتايوان، فالصين تدرك أن الولايات المتحدة تبطئ وتعوق الإمدادات من الرقائق الإلكترونية المتقدمة إليها، وهى غير مرحبة بتقدم الصين فى مجال تلك التكنولوجيا العليا، وهو ما يضع الصين فى دائرة الخطر، الأمر الذى جعل الحكومة الصينية تخصص 100 مليار دولار لدعم وتطوير صناعة رقائق الجيل الثالث كأولوية وطنية فى إطار الخطة الخمسية الرابعة عشرة، وتطوير التكنولوجيا الصينية المصنعة من مواد مركبة مثل نيتريد الجاليوم لإحراز الريادة التكنولوجية دون الاعتماد على التكنولوجيا الأمريكية المعتمدة على السيليكون.
وفى خضم التصعيد الأخير بين الولايات المتحدة والصين فى خضم زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكى لتايوان، صرح تشين وينلنج كبير الاقتصاديين فى مركز الصين للتبادلات الاقتصادية الدولية بقوله: إذا فرضت الولايات المتحدة والغرب عقوبات مدمرة على الصين مثل العقوبات ضد روسيا، فيجب علينا استعادة تايوان، وتولى شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات.
أما تايوان نفسها، فيبدو برغم التوترات السياسية والعسكرية المحيطة بها أنها تستند إلى استراتيجية درع السيليكون، التى تقوم على أن اعتماد الصين والولايات المتحدة والعديد من دول العالم على صناعة أشباه الموصلات التايوانية تمثل خط الدفاع الافتراضى الأول عن الجزيرة.
وعلى اعتبار أنه لا توجد دولة متقدمة أو صناعية أو شركة كبرى فى كل أنحاء العالم قادرة على تحمل تداعيات توقف إنتاج أو تعطل سلاسل الإمداد والتوريد للمنتجات الالكترونية فائقة التطور لشركة تايوان لصناعة أشباه الموصلات، أو تحمل تبعات أو تداعيات تدمير مصانعها، وهو الأمر الذى قد يكلف الاقتصاد العالمى خسائر تصل إلى عدة تريليونات من الدولارات.
وفى هذا الإطار نُشر أخيرا تقرير هام عن معهد مونتين الفرنسى للدراسات الاستراتيجية عن سياسات ودوافع الصين فى صناعة أشباه الموصلات، أن تايوان تعدُ مركز ثقل السياسة الأمنية الصينية، ولدى تايوان قيمة استراتيجية ضخمة فى سلسلة التوريد العالمية للرقائق الالكترونية فائقة التقدم، وهذا سبب قوى أيضا لدى الغرب فى إبقاء الصين بعيدة عن تايوان قدر المستطاع، كما أنه فى حالة حدوث غزو صينى لجزيرة تايوان، وفقا لذلك التقرير فلن يكون هناك سبب لترك هذه المنشآت سليمة، ولذلك فإنَ الحفاظ على أحدث أنواع المنشآت التصنيعية فى العالم يصب فى مصلحة الجميع.
وبهذا المفهوم يمكن أن تحقق تايوان رادعا مزدوجا يحول دون قيام الصين باللجوء للقوة تجاهها، كما يحقق لها الحماية الأمريكية وتوافق الدول المتقدمة والصناعية على التصدى لأى محاولة لتعطيل إمدادها باحتياجاتها من الرقائق الإلكترونية تحت أى ظرف، وهو ما يؤكده نائب مدير معهد تشونج هوا للبحوث الاقتصادية فى تايوان بقوله: أنه فى حالة حدوث صراع فى مضيق تايوان، فسيكون الأمر كارثيا، ليس فقط على تايوان أو الصين، ولكن أيضا على الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والعالم بأسره.
• • •
إذن فالقضية باتت تعنى العالم بأسره، دولا ومؤسسات وشركات ومصالح بمليارات الدولارات، والجميع يترقب التطورات فى الشرق الأقصى، وخاصة بعد أن صبت زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكى نانسى بيلوسى الزيت على النار، وتسببت فى جرح مؤلم لكبرياء الصين فى مسألة تعتبرها بكين فى قمة أولوياتها عن السيادة الوطنية، وإلى لحظة كتابة هذه السطور فما زال التصعيد مستمرا، ولا يمكن لأحد أن يتوقع أو يقدر ما سيأتى به الغد فى هذه القضية الشائكة شديدة الحساسية، لكن الغد لناظره قريب.
خبير اقتصادى ومستشار إدارة النقل والتجارة الدولية واللوجيستيات