ما من جنوبى نابه إلا ومر بالإسكندرية، سواء كانت له مسقط رأس، أو موطن قضى فيه شطرا من حياته، وجمال عبدالناصر تنطبق عليه هذه القاعدة تماما، فقد شهد شارع قنواتى بحى باكوس فى مثل هذا اليوم (15 يناير 1918) مولده، كما ارتبطت رحلة كفاحه بالمدينة التى لا تزال درة المدن المصرية.
فى الإسكندرية ألقى القبض عليه بتهمة حب الوطن والدفاع عنه، بعد مشاركته فى مظاهرة ضد الاحتلال الإنجليزى، وفى المدينة أعلن عبدالناصر تأميم قناة السويس، ليخوض، بعد ذلك، المعركة تلو المعركة سعيا إلى خروج المصريين من ربقة الفقر والحاجة، وليس ــ كما يروج كارهوه ــ لمجد شخصى، أورده المهالك.
انتصر الرجل فى معارك، بعد نجاحه مع الضباط الأحرار فى إزاحة النظام الملكى الفاسد، واجبار الاستعمار البريطانى على الخروج من مصر، فلم يكن منطقيا أن تترك عواصم مثل لندن وباريس وواشنطن، وقبلها إسرائيل جمال عبدالناصر فى شأنه، وهو يبنى جيشا قويا، ويفتتح المصانع، ويعيد توزيع الثروة لتحقيق عدالة اجتماعية فى وجه مجتمع النصف فى المائة.
كان الصدام حتميا بين الغرب ونظام جديد يسعى بصدق لإلحاق مصر بالركب العالمى، بعد سنوات من الاحتلال ونهب ثرواتها على يد حفنة من المقامرين والمغامرين الأوربيين، وثلة من الإقطاعيين المصريين، فكان العدوان الثلاثى عام 1956 (البريطانى الفرنسى الإسرائيلى)، ردا على قرار تأميم قناة السويس الذى اتخذه عبدالناصر عقب رفض البنك الدولى مساعدة مصر فى بناء السد العالى.
واصل عبدالناصر مسيرته بعد فشل من جاءوا بالبوارج والمظليين، فكانت بورسعيد مقبرة لهم، لكن ما هى إلا سنوات حتى عاود الأعداء عدوانهم من جديد فكانت هزيمة 5 يونيو 1967، التى لا جدال أنها كانت الضربة الأكثر إيلاما لنظام عبدالناصر، وهو نفسه تحدث باستفاضة عن هذا الشعور فى المحاضر السرية لاجتماعات مجلس الوزراء التى تلت الهزيمة وكانت دافعه الأول للتنحى فى 9 يونيو.
طبقا لتلك المحاضر التى نشرها النائب والكاتب الصحفى مصطفى بكرى فى كتابه «هزيمة الهزيمة.. من النكسة إلى الأزمة»، يقول عبدالناصر «الفترة دى الواحد حاسس بوحدة»، وفى موضع آخر يقول «طبعا إحنا مرينا بأزمات، ولكن دى أصعب واحدة».
دفعت الهزيمة المريرة عبدالناصر إلى عقد جلسات عديدة لمجلس الوزراء كانت أشبه بجلسات العلاج النفسى، والمصارحة والبحث الجاد عن أسباب تلك الهزيمة التى اعتبرها عبدالناصر سقوطا للنظام ذاته الذى كان يقوده.
وحسب الوثائق التى حصل عليها بكرى من الدكتورة هدى عبدالناصر قال الزعيم الراحل فى محضر اجتماع مجلس الوزراء فى 26 يوليو 67: «أنا باعتبر من يوم 9 يونيو النظام الماضى سقط كله، وغير موافق على ما قاله حسين الشافعى (نائب رئيس الجمهورية فى ذلك الوقت) من أن المظاهرات ( يقصد تظاهرات 9 و 10 يونيو) اللى طلعت دى هى ثقة بالنظام، مش موافق على كلامه ده خالص».
وفى محضر الاجتماع ذاته يوجه عبدالناصر انتقادا لكبار المسئولين والوزراء لعدم تحدثهم قبل الهزيمة وإبداء آرائهم الحقيقية فيما يجرى من أحداث، ويتساءل لماذا لم يستقيل من كان يعمل عكس قناعاته؟، ويقول «الحقيقة النهارده لما نقعد ونتكلم عن اللى فات، كل واحد فيكم غلطان إنه قعد.. كل اللى اتكلم عن اللى فات، اللى ما استقلش يبقى مقصر فى حق بلده ومقصر فى حق نفسه، يبقى مشارك فى اللى فات كله، إذا كان أخطاء 100% مشارك فيه 100% أو 1000%».
المحاضر السرية لاجتماعات مجلس الوزراء عقب هزيمة يونيو مليئة بالتفاصيل والمواقف سواء للرئيس الراحل نفسه، أو الوزراء المشاركين فيها، وهى كنز يحتاج إلى المزيد من القراءة والتحليل، للوقوف على حقبة مهمة فى تاريخ مصر يمكن من خلالها التخلص من أوهام وأكاذيب عديدة حاول البعض إلصاقها بجمال عبدالناصر.