بداية لا توجد حسب علمى علاقة مباشرة بين قناة فوكس نيوز الإخبارية والإعلام المصرى. هى قناة شهيرة فى الولايات المتحدة الأمريكية، ولا أعرف حتى إمكانية التقاطها فى مصر، حتى ولو كان لدى المشاهد طبق شديد الحساسية وذو إمكانيات واسعة. ولكن ذاعت شهرة هذه القناة فى الفترة السابقة على العدوان الذى شنته إدارة الرئيس الأمريكى جورج بوش على العراق فى 19 مارس سنة 2003. فهى القناة التى كانت تدق طبول الحرب وتسوق المبررات التى فى رأى إدارتها ومقدمى برامجها تدفع الولايات المتحدة دفعا للهجوم العسكرى على العراق بدعوى تهديد أمنها القومى بسبب امتلاك نظام صدام حسين لأسلحة الدمار الشامل مثل برنامج نووى وأسلحة كيماوية وصواريخ يمكن أن تهدد الولايات المتحدة وحلفاءها وبسبب مساندة صدام حسين لتنظيم القاعدة، وهى كلها أكاذيب كان أول من كشفها الدكتور محمد البرادعى مدير الوكالة الدولية للطاقة النووية فى ذلك الوقت وأمام مجلس الأمن، كما كشفتها تقارير مفتشى الأمم المتحدة الآخرين بعد ذلك بل وتقارير خبراء أمريكيين أيضا. وقد تطوعت قناة فوكس نيوز بأن تقنع الرأى العام الأمريكى بقوة حجج الرئيس الأمريكى ومساعديه ممن عرفوا بالمحافظين الجدد خلافا لقنوات التليفزيون الأخرى وفى مقدمتها قناة سى إن إن، التى كانت فى رأى فوكس نيوز لا تقوم بواجبها فى تبصير الرأى العام الأمريكى بهذه المخاطر.
وقد انفردت قناة فوكس نيوز بالمقارنة بقنوات التليفزيون الرئيسية الأخرى فى الولايات المتحدة بأنها قناة ذات رسالة سياسية مباشرة. طبعا قنوات التليفزيون الأخرى تعمل فى إطار ما يمكن تسميته بالأيديولوجية الليبرالية الأمريكية تطرح على مشاهديها ما ترى أنه أخبار تستحق أن يعرفها وفقا لشعار جريدة نيويورك تايمز، ولكنها لا تتخذ دائما موقف المدافع عن سياسة محددة، وإنما تحاول عكس التوجهات المختلفة بالنسبة لأى قضية، ولذلك نجد تنوعا فى الآراء والتحليلات فى البرامج الحوارية فى هذه القنوات وعلى صفحات الجرائد الأمريكية الرئيسية والتى أتابعها يوميا تقريبا، وذلك رغم التفاوت فى مدى ليبرالية هذه القنوات والصحف.
•••
وكنت قد قضيت صيف 2002 فى واشنطن، ولم أكن أطيق مشاهدة هذه القناة لكذبها الواضح وأعجب لفعاليتها فى توجيه الرأى العام الأمريكى لتأييد قرار كان الرئيس الأمريكى قد اتخذه بالفعل، وكان يتطلع فقط لإقناع الرأى العام الأمريكى به. ولذلك فعندما طرح الرئيس على الكونجرس الأمريكى أمر الموافقة على شن الحرب على العراق لم يكن أمام بعض أعضائه ممن كانوا يدركون بطلان هذه الإدعاءات استنادا حتى لتقارير سابقة من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية سوى أن ينساقوا وراء قرار الحرب، وإلا سلطت عليهم الاتهامات بعدم وطنيتهم.
وهكذا نجحت قناة فوكس نيوز ومعها العديد من مراكز الفكر والصحافة المحافظة فى الولايات المتحدة فى تضييق نطاق الخيارات المتاحة أمام إحدى مؤسسات صنع القرار فى الولايات المتحدة وهى فى هذه الحالة الكونجرس الأمريكى بل وحتى قيادات عسكرية أمريكية، ومن ثم مضى المحافظون الجدد فى طريقهم إلى شن حرب لا مبرر لها على الإطلاق لا من الناحية الأخلاقية ولا القانونية ولا حتى من ناحية المصلحة الوطنية للولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما أدركه الرأى العام الأمريكى بعد ذلك بخمس سنوات، ومن ثم انتخب باراك أوباما فى سنة 2008 والذى وعد بإنهاء الوجود العسكرى الأمريكى ليس فى العراق وحدها ولكن حتى فى أفغانستان التى قيل إن تنظيم القاعدة خطط فيها لهجمات 11 سبتمبر 2001. وقد أوفى أوباما بهذا العهد فى العراق وهو على وشك أن ينتهى من ذلك قريبا فى أفغانستان.
•••
قنوات التليفزيون والصحافة لها تأثير مهم على صانع القرار، فهى بقدرتها على تشكيل الرأى العام توسع أو تضيق من حرية صانع القرار وتكاد تفرض عليه اختيارات لا يميل لها رغم أنها هى التى قد تمكنه من الخروج من أزمات طاحنة، وتفتح الباب لانفراج الأفق السياسى أمامه، وهو الذى قد يبدو موصدا.
ولكن ما هى علاقة ذلك كله بقنوات التليفزيون عندنا ومعظم صحفنا. ورغم التباين بين هذه القنوات والصحف إلا أنى أزعم أن أسلوب قناة فوكس هو الطابع الأساسى لأغلبيتها الساحقة. فعلى عكس الولايات المتحدة حيث يوجد تنوع مؤكد فى توجهات القنوات التليفزيونية لا يوجد هذا التنوع فى قنوات التليفزيون فى مصر وبقدر أكبر قليلا فى الصحافة، وخصوصا بعد إغلاق العديد من القنوات التليفزيونية ووقف بعض الصحف منذ صيف العام الماضى. وأيا كان الرأى فى القنوات المغلقة والصحف الموقفة إلا أنها كانت تضفى قدرا من التنوع فى المجال الإعلامى فى مصر. ولكن الأخطر هو أن الرأى الواحد هو الذى يسود إعلامنا بصفة عامة، ويمكن تلخيصه فى ضرورة الإقصاء الشامل لوجود تيار الإسلام السياسى الفاعل فى مصر واجتثاثه من جذوره، وكذلك استبعاد كل من شارك فى ثورة يناير بل وعقاب النشطاء من الشباب الذين قادوا هذه الثورة والتى يستمر أحد كتاب الأعمدة فى الصحيفة اليومية المسماة بالأولى فى مصر على وصفها بأنها «عملية يناير» والتى يرى بعض كبار الإعلاميين أنها كانت نتيجة مؤامرة خارجية على مصر، وهى مؤامرة مستمرة تشترك فيها منظمة حماس ودولة قطر وإسرائيل والولايات المتحدة، ويضاف إلى ذلك أن معظم إعلاميينا مثل أقرانهم فى قناة فوكس هم نشطاء سياسيون، ولكنهم ليسوا مثل نشطاء يناير القابعون فى السجون، ولكنهم يديرون برامجهم الحوارية ويكتبون أعمدتهم لترويج هذه المقولات السياسية وتسفيه من يفكر على نحو مختلف فى قضايا الوطن.
خطورة هذا التوجه الإعلامى ليس فقط أنه يضلل المشاهد والقارئ، ولكنه يمارس ضغطا قويا على صانع القرار السياسى فى الوقت الحاضر وفى المستقبل لأنه يضيق من نطاق الخيارات المتاحة أمامه، ويكاد يلزمه باتباع مسار واحد لم يخرج بنا حتى الآن من أزماتنا الراهنة.
خذ بعض الأمثلة من أوضاعنا الداخلية وعلاقاتنا بدول العالم. هذا التوجه الغالب فى إعلامنا يشدد على ضرورة الاقتصار على ما يسمى بالحل الأمنى وحده فى مواجهة ما يقوم به أنصار الإخوان المسلمين من احتجاجات. بطبيعة الحال لابد من الحسم فى مواجهة من يخرجون على القانون سواء باستخدام السلاح ضد الشرطة والجيش وضد المواطنين الآخرين، أو بالخروج عن القانون بإثارة الفوضى والشغب فى الشوارع وفى الجامعات. ولكن هل سيقتصر صانع القرار على المواجهة الأمنية وحدها، ومن الواضح أنها لا تكفى لا فى مواجهة الإرهاب ولا أعمال الشغب هذه؟ أليس من حق بل من واجب صانع القرار أن يجتهد لاستشراف سبل أخرى حتى ولو بدا أنها قد تؤدى إلى طريق مسدود؟ ولكن لماذا لا نتركه يحاول تلمس هذه السبل، وخصوصا إذا جاء إلى موقعه بعد انتخابات حرة ونزيهة؟.
واضرب مثلا آخر بالوضع فى الجامعات. يصر أصحاب الصوت العالى فى منابرنا الإعلامية على ضرورة تواجد الشرطة فى الجامعات، ويسخرون من رؤساء الجامعات الذين يشترطون أن يكون استدعاء الشرطة فقط عندما تخرج الاحتجاجات الطلابية عن سلميتها. وأظن أن رؤساء الجامعات هم أعلم بالأوضاع داخل جامعاتهم من أصحاب الصوت العالى هؤلاء، والذين يغفلون عن أن وجود الشرطة الدائم داخل الجامعات سوف يزيد من اشتعال الموقف داخلها ويوفر لقلة من الطلبة المحتجين مناسبة يبحثون عنها للصدام مع الشرطة وتحميلها مسئولية ما ينجم عن مثل هذا الصدام من ضحايا، ومن الإساءة إلى صورة الشرطة فى مصر وفى الخارج. وهو لحسن الحظ ما تدركه قيادات الداخلية وترفض الاستجابة لمثل هذه النداءات.
•••
كما تضيق هذه الأصوات الزاعقة فى الإعلام من فرص التواصل الناضج مع حكومات أجنبية تربطها بمصر صلات وثيقة. فيغفلون عن الأسباب التى دعت دول الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة لاتخاذ موقف متحفظ مما جرى فى مصر منذ الصيف الماضى، ويتناسون أو ربما لا يعرفون بتعدد وجهات النظر بالنسبة لما جرى فى مصر بين القوى السياسية بل والمسئولين الحكوميين فى هذه الدول.
لا أحسد صانع القرار فى مصر وهو يواجه مثل هذه الضغوط والتى انصاعت لها الحكومة فى مناسبات عديدة سواء فى ظل حكم المجلس الأعلى للقوات المسلحة أو فى ظل الحكومة المؤقتة. ولذلك فإن إنقاذ الرأى العام من التضليل وإفساح الحرية لصانع القرار فى الاهتداء لما فيه صالح الوطن يقتضى الابتعاد عن نموذج فوكس نيوز من خلال صحوة إعلامية تشتد الحاجة لها الآن أكثر من أى وقت مضى.