لم يكن صوت الإذاعة الداخلية الذى راح يتردد فى جنبات محطات مترو الأنفاق بصيغة موحدة صباحا مساء؛ لتبرير رفع أسعار التذاكر كافيا لمنع الهمهمات المكتومة حينا، والعالية أحيانا، كما أن صاحبة الصوت الخالى من أى حماس لم تفلح، وهى تسوق الأسباب التى دفعت بوزارة النقل للزيادة الجديدة، فى إزالة علامات الغضب الصامت الذى أعتلى وجوه الركاب ممن كانوا يتبادلون النظرات الحزينة فوق الأرصفة فى انتظار وصول عربات القطار.
فمنذ صباح الجمعة الماضية، وما تلاها من أيام، لا حديث لسكان القاهرة الكبرى وضواحيها سوى عن قرار رفع الأسعار الذى باغت الجميع عشية الخميس، وبنسبة زيادة لم يكن أكثر المتشائمين يتوقعها، وهو ما زاد من حالة الرفض والتعبير عن عدم الرضا وسط مرتادى المترو، الذين يعتمدون على هذا المرفق بشكل منتظم فى الوصول لأعمالهم، وقضاء مصالحهم.
وعلى وقع الحديث الحكومى المتكرر فى الفترات الماضية، وكلام وزير النقل، هشام عرفات، والمسئولين عن هيئة مترو الأنفاق فى أكثر من مناسبة، عن الضرورة الملحة لرفع أسعار تذاكر المترو لمواجهة الخسائر ومنع انهيار المرفق الحيوى، تمهيدا للقرار، اعتقد البعض أن نسبة الزيادة لن تتجاوز سقف 100%، كما تم قبل عام، لكنها بلغت 250% للمسافة فى حدها الأقصى.
هيئة المترو قالت إنها لجأت للدواء المر، وعرضت تفاصيل الإيرادات والمصروفات، والخسائر التى تقفز بمعدلات غير مسبوقة وصل إجماليها فى السنوات من 2014 وحتى 2017 أكثر من 618 مليون جنيه، لكنها فى التسويق لم تكن موفقة فى إقناع الناس بهذه الزيادة الكبيرة، ولم يكن بقدرة أحد أن يتفهم كلمات مسئول كبير عن أن رفع الأسعار جاء لتحقيق العدالة الاجتماعية!!.
هذا التبرير، الذى يعكس خللا فى فهم المسئول لـ«العدالة الاجتماعية»، يتجاهل أن رواد المترو البالغ عددهم نحو 3 ملايين راكب يوميا على الخطوط الثلاثة، غالبيتهم من الفقراء وصغار الموظفين ممن يكتوون بنار رفع الأسعار ليس فى المترو فقط، ولم يسأل صاحب المقولة نفسه أية عدالة اجتماعية يحققها القرار؟!.
كما أن صاحب فكرة تسويق الزيادة بعمل مقارنة بين ثمن تذاكر المترو فى مصر والعديد من الدول الأوروبية التى تحظى بمتوسط دخل يفوق دخل بعض كبار المسئولين لدينا، كان فاشلا، لأن أصغر طفل سيرد عليه بسؤال: وهل أوضاعنا يمكن مقارنتها بهذه الدول التى تتمتع بدخول مرتفعة، وخدمات فائقة الجودة، فى التعليم والصحة، ووسائل النقل العام، وغيرها من الخدمات؟.
نقطة أخرى، وبعيدا عن حالة الارتباك التى شهدتها محطات المترو فى الأيام الأولى لتطبيق رفع الأسعار، وخاصة أمام شبابيك الحصول على التذاكر، والعراك بين موظفين مغلوبين على أمرهم ومواطنيين غاضبين، كان لافتا مشهد قوات الأمن التى جرى الاستعانة بها تحسبا للخروج عن النص، الذى ظهرت إرهاصاته فى اليوم الثانى للقرار الذى ولد حالة من الاحتقان.. ألا يشكل ذلك عبئا جديدا على قوات الأمن التى تواجه تحديات جمة؟، وألا يساهم الأمر فى إعادة صورة سلبية سعينا بعد 30 يونيو إلى التخلص منها؟.
يعلم المصريون جميعا أننا نواجه مرحلة صعبة تحتاج إلى تضحيات، لكن العدالة تقتضى توزيع الأعباء على الجميع، وأن يقتنع المواطن أولا بكل قرار، فلا يجد زيادة فى أسعار المترو الذى تستخدمه غالبية الشرائح ذات الدخول المتواضعة، فى الوقت الذى تزيد فيه رواتب ومعاشات بعض الفئات التى لا تعرف للمترو طريقا.
لا أحد مع انهيار مرفق مهم مثل مترو الأنفاق، ولا أحد يتهرب من تحمل عبء تطوير مرافق حيوية أهملت لسنوات، غير أن الناس تحتاج إلى شعور بالرفق بها أولا، وألا تلجأ الحكومة إلى العلاج بـ«الكى» إلا فى أصعب الظروف ثانيا، وأن يتشارك الجميع، كبيرهم قبل صغيرهم، فى تحمل الأعباء ليس بالتساوى، ولكن كل حسب قدرته ثالثا، إذا كنا نبغى عدالة اجتماعية حقا، وحتى لا يمور الغضب المكتوم.