الفنانون يشعرون دائما باهتمام المجتمع تجاههم على طريقتين، إما عبر احتضانهم أو التهجم عليهم. يتمتّع الكتّاب، الرسامون، والمفكرون بعلاقة متقلبة مع العالم، قد تبدأ بالاحترام وتنتهى بالبغض، أو تبدأ باللامبالاة وتنتهى بالإعجاب، أو ربما لا تبدأ على الإطلاق. أولئك الذين يمتلكون موهبة التعبير يثيرون خوف الناس لأنهم يتحدثون بالحقيقة كما عاشوها، ويظهرون للعالم الواقع من خلال عدسة الجمال مهما كان مشوّهة. عندما يجد الفنان قبولا يرتقى إلى مرتبة سامية من خلال تكريمه ومكافأته والحديث عن إبداعه، وعندما يتعرض للهجوم يُعتبر منبوذا ولا يستحق سوى التجاهل التام.
لطالما كانت السياسة سببا فى تشكيل مثل هذا الموقف تجاه الفنون. فالسياسة تخشى النقد بجميع أشكاله، ولا تقدّر من يجرؤ على قول الحقيقة كما هى وليس كما تُصورها المصطلحات السياسية. أثناء الحروب والاضطرابات السياسية الكبرى تكون الفنون أولى ضحايا هذا الخوف، حيث يتم ملاحقة الفنانين والإيقاع بهم، لينتهى بهم الأمر وراء القضبان لأسباب لا يفهمها سوى السياسيين.
أدت الحرب الحالية على غزة إلى إسكات نحو 35000 صوت، وإغلاق 35000 عين، وتسببت فى إصابات لآلاف آخرين سُلبوا القدرة حتى على التعبير عن أنفسهم. ورغم ذلك، للفن طريقة فى تخطى الألم، وربما يكون الألم هو مصدر إلهامه الأعظم، وفى فلسطين، أصبح الألم جزءا لا يتجزأ من الحياة. أحد أعظم رموز الفنون العربية، الشاعر الفلسطينى محمود درويش، وضعته الحكومة الإسرائيلية تحت الإقامة الجبرية لمدة ثلاث سنوات، فقط لأنه كتب قصيدة. واغتالت المخابرات الإسرائيلية الكاتب غسان كنفانى من خلال تفجير سيارة فى بيروت أودى أيضاً بحياة ابنة أخته التى كانت فى السابعة عشرة من عمرها. أما عبقرى الكاريكاتير ناجى العلي، مبتكر شخصية الطفل حنظلة الذى أصبح رمزا للمقاومة، فقد أطلقت عليه النار من قبل أحد رجال الموساد أمام مكتب صحيفة القبس الكويتية فى لندن. صحيح أن بعضاً من أعظم العقول دفن غدراً، وأسكت، لكن بقيت كلماته مسموعة.
يُخدع العالم عند اعتقاده بأن هذه الحرب على الفنون تُشن فقط فى الدول غير الديمقراطية، وأن أولئك الذين يقدسون حرية التعبير لا يشاركون فى هذا الظلم، فها هى إسرائيل، إنجاز الغرب الأكبر فى الشرق الأوسط، الحكومة التى تفتخر بأنها «الديمقراطية الوحيدة» فى المنطقة، تشارك منذ إنشائها فى سجن وقتل من يمارسون هذا الحق الديمقراطى المقدس بدم بارد. شنت إسرائيل 15 حربا على قطاع غزة، وكانت هذه الحرب الأخيرة هى الأشد دموية وقسوة. منذ 2023، تقترب غزة من الانقراض التام، وإسرائيل مصممة على إكمال هذا الاحتلال الصارخ.
يتعرض الفنانون للاستهداف فى غزة باستمرار حتى فى لحظات «السلام» القصيرة، ومعظمهم يقضون أكثر من حكم بالسجن المؤبد فى السجون الإسرائيلية من دون حق الاستئناف. ظهر مؤخرا فى الأخبار اسم باسم خندقجى بعد فوزه بجائزة بوكر الدولية للرواية العربية عن روايته «قناع بلون السماء»، كتبها أثناء قضاء ثلاث عقوبات بالمؤبد فى سجن إسرائيلى منذ عشرين عاما. ثمة شاعر فلسطينى آخر يقضى أربع عقوبات مؤبدية فى السجون الإسرائيلية هو ناصر شاويش، يعمل على نشر قصائده، يكتب كل واحدة سبع أو ثمانى مرات على أمل هرب بعضها من بين قضبان السجن. يحب شاويش الكتابة أثناء التدخين وشرب القهوة فى حديقة، لكن لا توجد حدائق فى السجن، ومع ذلك قال إنه فى بعض الأحيان يرفعه زملاؤه إلى نافذة ضيقة فى الزنزانة لإلقاء نظرة على الطبيعة المحيطة بجدران السجن.
فى آخر مقابلة له، ناشد أستاذ الأدب الفلسطينى والشاعر رفعت العرعير العالم بصوت متقطع لأنه خشى الأسوأ عندما سقطت القنابل من حوله ولم يبصر سبيلا للهرب. أصبحت قصيدته الشهيرة «إذا كان لا بدّ أن أموت» نشيدا للبقاء وتذكيرا بالأمل، فعلى الرغم من أن الشاعر لم يعد بيننا، إلا أن كلماته لا تزال حية. تطاردنا كلماته فى تلك المقابلة، وكثيرا ما تظل تحثنا على التأمل فى لحظات الظلام. وتحدث العرعير عن كونه أكاديميا، وسلاحه الأكثر فتكا هو قلم السبورة الذى كان سيرميه على الجنود الإسرائيليين إذا اقتحموا منزله، ويستخدمه دفاعا عن النفس. أليست الحقيقة المطلقة أن كل ما يملكه الفنان هو أدواته المتواضعة لمحاربة الظلم وقبح العالم؟
هذه الأسماء ليست سوى عدد قليل من بين الكثيرين الذين عانوا وقتلوا بسبب قول الحقيقة. إن استهداف إسرائيل المنهجى والموثق للباحثين عن الحقيقة يشكل جريمة خطرة ضد الإنسانية، ويمثل محوا لا مبرّر له لتجربتهم التعبيرية مع بشاعة واقعهم. تحدثت الشاعرة مايا أنجيلو عن سبب غناء الطائر الحبيس والشجاعة التى يتطلبها الأدب لسحق العنصرية ومواجهة الصدمات. قالت أنجيلو إن الطائر فى القفص يغنى عندما يكون جناحه مصاباً ويضرب قضبانه ليتحرر. لنأمل أن تنكسر كل الأقفاص وأن يحظى كل جناح مكسور بحرية الشفاء ليتمكن من التحليق. ليس فى السجن حدائق يراها الشاعر، لكن كلماته تجعل القفص يزهر.
عائشة عبدالله تريم