ذات يوم من أيام شهر مايو عام 1987، هاتفته لتحديد موعد لإجراء حوار صحفى، وهو القامة الاقتصادية الكبيرة، فيما كنت لا أزال أحبو فى بلاط صاحبة الجلالة، لكن صوته الأبوى شجعنى على طرح الفكرة التى كلفت بها ضمن فريق التحقيقات بصحيفة «صوت العرب» وقتها، استغرب الرجل فى البداية، لجرأتى على اقتحام مثل هذا الموضوع المعقد الذى كان يتناول رحلة الفلاح المصرى مع الشقاء منذ محمد على وحتى ثورة يوليو من منظور اقتصادى.
بعد دقائق توليت فيها شرح فكرتى، رحب الرجل باللقاء فى اليوم التالى بمنزله بشارع عباس العقاد فى مدينة نصر، ولأننا كنا فى شهر الصوم فقد فضل أن يكون اللقاء بعد صلاة التراويح، التى كانت عادة ما تنتهى فى حدود العاشرة فى مثل هذا الوقت من الصيف.
فى اليوم التالى شددت الرحال لإجراء الحوار مع الخبير الاقتصادى الكبير، وكلى حماس للتعرف عليه، بعد أن زودنى الدكتور عبدالحليم قنديل والأستاذ أحمد عز الدين وعدد من الزملاء الأكبر سنا بذخيرة وافية عن هذا الخبير المهم، الذى كان عائدا لتوه من رحلة سفر طويلة، عمل خلالها مستشارا فى التخطيط للحكومة العراقية.
عند مدخل الباب الرئيسى لعقار من أربعة أدوار على ما أتذكر، وجدت رجلا مهيب الطلة، تجاوزت سنوات عمره الستين بقليل، تعلو وجهه ابتسامة وقورة، وهو يرحب بشاب يصغره بأربعين عاما، فى تواضع يعكس شخصيته التى كانت مغناطيسا يجذب المريدين.. هكذا كان لقائى الأول بالدكتور محمد محمود الإمام وزير التخطيط الأسبق، الذى رحل فى هدوء قبل أيام عقب حياة حافلة بالعطاء.
بعد نحو ساعتين من الحوار الدسم الذى تخللته مئات الأرقام، رغم صعوبة استيعابها، وجدتنى ألج أبوابا جديدة لمعرفة تاريخ مصر الاقتصادى فى واحدة من محطاته الأساسية، فقد كان الدكتور الإمام رحمه الله بارعا فى تبسيط المعلومة المعقدة بما لا يقلل من قدرها، وهو ما فتح أمامى آفاقا رحبة، ومثل لى دافعا كبيرا للقراءة فى الجوانب الاقتصادية على مختلف ابعادها، فأجريت بعد ذلك، سلسلة من التحقيقات الصحفية من وحى هذا اللقاء.
فى نهاية اللقاء أستأذن د. الإمام فى قليل من الوقت لتزويدى بقدر من المعلومات الموثقة، كى استعين بها فى فى إعداد موضوعى الصحفى، حيث انتقل إلى غرفة جانبية غاب بداخلها نحو نصف ساعة على وقع صوت يشبه صوت الآلة الكاتبة، اكتشفت بعدها أنه صوت طابعة جهاز كمبيوتر يستخدم نظام دوس، وبلا ماوس، قبل اختراع نظام وندوز، فقد كان الراحل فى طليعة من تعاملوا مبكرا مع التقنيات الحديثة.
كان الوقت قد شارف على الواحدة بعد منتصف الليل، عندما خرج الدكتور الإمام من الغرفة ممسكا بمجموعة من الأوراق، وأنا أتعجل الرحيل، هنا، وهو أمر لم أكن اتوقعه، سألنى الرجل، أين تسكن، أجبت بعفوية فى المعادى، فباغتنى بسؤال آخر: وكيف ستعود فى هذا الوقت المتأخر، صمت قبل أن يجيب هو: أخشى ألا تلحق بالسحور قبل الوصول لمنزلك، والأفضل أن تتناوله معى، حاولت الاعتذار بأكثر من طريقة، لكننى لم أخرج من بيته إلا مع ساعات الصباح الأولى.
هذا الموقف ظل ملازما ذهنى كلما جاء ذكر الدكتور الإمام، وأظن أنه سيظل طويلا رغم مرور أكثر من ثلاثين عاما عليه.. رحم الله هذا العالم الجليل.