ما بين علامتى التنصيص هو عنوان معرض تنظمه كلية الهندسة بجامعة القاهرة بالتزامن مع عرضه فى نيويورك بالولايات المتحدة. ونحاول من خلال هذا المعرض أن نضع أمام طلابنا وطالباتنا بعضا مما يحدث فى العالم، وأن نثير فضولهم ونشجعهم على التفاعل مع المعروضات بصرف النظر عن كونهم يدرسون العمارة أو غيرها. من أهدافى الشخصية من العمل على هذا المعرض أن يمكننا التفكير فى الحداثة فى القاهرة ومصر من فهم واقعنا المعقد الناتج عن تاريخ ربما أكثر تعقيدا. وأتمنى أن يكون المعرض قد أثر على الشباب، وأثار فضولهم وشهيتهم للمعرفة، وحثهم على الانخراط بجدية فيما يهمهم ويهم مجتمعهم ومستقبلهم.
فى هذا المعرض يتم عرض أعمال لحداثيين مصريين من العشرينيات وحتى السبعينيات من القرن العشرين؛ نصف قرن من إنتاج معمارى ثرى يجعل من فهمنا للحداثة العالمية أكثر تركيبا. يقدم المعرض للحضور معماريين رئيسيين من هذه الفترة، مثل سيد كريم، وأيضا أمثلة من أعمالهم التى كلفوا بها من قبل الدولة وبرجوازيى المدينة المزدهرين. عكست الحداثة فى القاهرة تطلعات الطبقات الجديدة التى تشكلت بعد ثورة 1919، والتى تبنت المسكن الحديث والشقة كتجسيد للرمز الجديد للطبقة والهوية والحداثة.
• • •
القائم على المعرض فى نيويورك هو المعمارى محمد الشاهد الذى كان كرما ولطفا منه أن يوافق على إرسال مواد معرضه فى نيويورك لعرضها فى أحد ممرات مبنى قسم العمارة، والذى قمنا بتصميمه وتنفيذه على مدى أكثر من شهرين. استوقفنى الجهد والبحث والعناية المبذولين فى المعرض والذى انعكس فى اللوحات، وخاصة لوحة خط الزمن. هذا الجهد والبحث والعناية الذى نتج من بحث الشاهد فى رسالته للدكتوراه، ثم فى كتابه «القاهرة منذ 1900: دليل معمارى»، والذى صدر بالإنجليزية فى القاهرة العام الماضى، ويضم مسحا شاملا للبناء الحديث فى المدينة من خلال 226 مبنى فى 17 منطقة جغرافية وذلك منذ العام 1900 حتى الآن. ويظهر أيضا مجهود مصمم المعرض ومصمم الجرافيكس أحمد حمود.
لفهم المعرض بصورة أفضل من المهم الرجوع لرسالة الدكتوراه التى أعدها محمد الشاهد فى جامعة نيويورك، وترجمت إلى العربية من خلال المركز القومى للترجمة، الذى يستحق كل التحية والاحترام على جهوده الهامة للغاية، فى كتاب تحت عنوان (الحداثة الثورية: العمارة وسياسات التغيير فى مصر 1936ــ1967). وفى الكتاب يتوقف الشاهد عند مفهوم بو رابيناو «الحداثة الوسيطة» والتى تختلف عن الحداثة العليا لرواد العمارة مثل لوكبوزييه وغيره. يقصد بها كما يقول رابيناو «مشروع الحداثات الوسيطة كان أكثر جرأة ويسعى لخلق إنسان جديد مطهر ومحرر ساعيا لأشكال جديدة من المجتمعات يعتقد أنها ستظهر بشكل حتمى من منطلق الأماكن والأشكال الصحية» وبفضل كفاءتها وكونها متاحة يكتب الشاهد أن عمارتها ستصير جزءا من الثقافة البصرية للطبقة الوسطى خاصة فى سياقات مثل التى توجد فى مصر.
يكتب محمد الشاهد أن «فى القاهرة كان مستخدمو المدينة غائبين تقريبا عن التمثيل العام للمشروعات الحضرية والمعمارية التى كان الغرض منها أن تكون تكليفات عامة. لم تتعلق تلك المشاريع بالشعب بقدر ما كانت متعلقة بالملكية أو النظام العسكرى الذى يبنى باسم الشعب». ما يكتبه محمد الشاهد عن سيد كريم ومعماريين آخرين يلقى ظلالا كثيرة على مهنة المعمارى وعلاقته بالسلطة وإلى أى مدى هو تابع لها فى انتظار رعايتها، وهو أيضا ربما يرتبط بتساؤل قديم لى عن مدى ضرورة إعادة تعريف العمارة بعيدا عن تلك التى ولدت لتخدم السلطة كما كتب بيتر هيلير فى كتابه (ضد العمارة، لأخرى تضع الإنسان كأولوية أولى). وهل يمكن اعتبار المعمارى كالمثقف الذى كتب عنه يحى حقى فى روايته العظيمة (قنديل أم هاشم) والذى توجب عليه أن يتصالح مع المجتمع حتى يستطيع نشر أفكاره وحتى يتمكن فعلا من النهوض بأفراده.
• • •
افتقد فى المعرض الكثير من الخرائط التى تضع هذه المبانى فى سياقها الجغرافى، والتى تساعد أيضا على فهم الإطار العام، وربما افتقد أيضا بعضا من الأرقام عن سكان القاهرة وتنوع خلفياتهم فى ذلك الوقت مثل ما فعل جاك ارنو فى كتابه عن القاهرة وخاصة فى تناوله لمنطقة ميدان الأزبكية. كما غاب عنه عرض ذلك التناول الثرى والمركب الذى يتناول تلك الفترة فى تاريخ مصر والذى يمكن أن تراه بوضوح فى أطروحته للدكتوراه.
أشار محمد الشاهد إلى كتاب محمد مكاوى الصادر فى عام 1938 بعنوان (التقدم العمرانى لمدينة القاهرة والمدن المصرية الأخرى) والذى يكتب فيه عن حالة أحياء القاهرة السيئة جدا نتيجة غياب الضوء والهواء والشمس، ونتيجة غياب التنظيم العمرانى للميادين، وغياب التفكير المستقبلى عند تخطيط الشوارع. ويضرب مثالا بشارع الخليج المصرى (بورسعيد حاليا) والذى لم يراع عرضه ازدياد السكان فى المستقبل القريب، وبالتالى الاضطرار لتوسعته مرة أخرى بتكلفة كبرى. وهى حالة بالطبع لا تقتصر على هذا الشارع فقط، ويمكن ملاحظتها فى شوارع أخرى مثل شارع محمد على والذى توضح حالته الآن هذا التخبط. ويطرح هذا التخبط الذى بدأ من القرن التاسع عشر واستمر فى بدايات القرن العشرين، وربما يزعم البعض أنه مازال مستمرا حتى الآن، سؤالا حول ما حدث فى القاهرة من مبانى وتخطيط؛ هل هو محاولة لإضفاء مظهر حديث لجوهر ليس حديثا. هل هو محاولة تمثيلية شكلية أم أنه جزء من عملية تحديث حقيقية بدأت وربما ما زالت مستمرة. هل يمكن أن تكون حداثى مثل سيد كريم فى مجتمع غير حديث؟
فى خاتمة الكتاب يكتب الشاهد «فشل المعماريون والروابط المهنية ومدارس العمارة فى الاشتباك بشكل مباشر مع واقع مصر والحاجة إلى إسكان ذى سعر رخيص ومصمم جيدا. وبدلا من ذلك استمرت المهنة فى تلبية حاجة قطاع صغير من المجتمع، واستعادت الفيلا التى كانت فى الماضى رمزا للبورجوازية شعبيتها وذلك فى أشكال غريبة بنيت فى مدن صحراوية بعينها تضمنت مجتمعات محاطة بأسوار» وعلى الغلاف الخلفى للكتاب يشير الكاتب أنه «قبل ثورة يوليو 1952 كانت هناك ثقافة معمارية صاعدة، ساهم فيها خريجو كلية الهندسة بجامعة القاهرة. وبعد يوليو استخدم النظام الثورى الصعود المعمارى ليسد احتياجات التنمية. كما استخدمه ليظهر أمام الرأى العام على أنه نظام حداثى». ونتمنى اليوم فى كلية الهندسة بجامعة القاهرة أن نستمر فى نقاش الدور الذى يقوم به ليس فقط خريجو الكلية ولكن كل المهندسين وخاصة المعماريين فى مصر فى الانتقال ليس ببساطة لمجتمع حديث ولكن لمكان أكثر عدلا للجميع واستدامة للأجيال القادمة.
أحد الأسئلة التى تشغلنى شخصيا هو كيف يمكن للنقاش حول الحداثة فى مصر أن يساعد فى التفكير فى مواجهة التحديات الوجودية مثل التغير المناخى وتدهور التنوع الطبيعى وغيرها؟ وأتطلع لنقاش بعض من هذه الاسئلة مع اسئلة جمهور الحاضرين للنقاش العام الذى سننظمه فى المستقبل القريب.