تقف هى عند عتبة بيتها مع بعض مما استطاعت أن تجمعه من حاجاتها هى وأسرتها. تلمع عيونها بالدمع ونظرة التحدى ــ تلك النظرة التى عرفناها على وجوههم جميعا ليس اليوم أو الأمس أو فى آخر أيام رمضان وقبل احتفالات عيد الفطر، بل قبل ذلك بسنين طويلة.. رجال ونساء، شيوخ وأطفال، كلهم يتوارثون تلك النظرة، كلهم يحملونها معهم فى بقاع الكون وأينما حلوا.. كلهم يعرفون أنها أكثر قوة من درعهم الحديدى.. كلهم وليست هى وحدها، ولكنها وقفت هناك عند باب بيتها.
***
وقفت وحدها فى مواجهتهم، عشرات منهم بل ربما أكثر.. هى وحدها وهم بأسلحتهم وملابسهم الواقية وعرباتهم المصفحة أمامها وحدها.. تتحدث بهدوء العارف بمجرى التاريخ والقارئ للأحداث المتتالية على شعوب عاشت نفس تلك اللحظة بكثير من الدم والتشرد واللجوء والوجع الساكن بداخل كل من بقى أو ترك الأرض مجبرا وبقيت الأرض تنبت شقائق النعمان ونرجس وزعتر وزيتون.. كلما قطعوا شجرة عمرها أطول من عمر دولتهم، كلما عادوا هم ليغرسوا عشرة أشجار زيتون.
***
بقيت هى فى مكانها فيما كانوا يتراجعون إلى الخلف شيئا فشيئا وعيونهم يملأها الخوف والترقب. بعد كل تلك السنين لم يستطع علماؤهم وبحوثهم وجامعاتهم أن تفهم سر تلك النظرة التى تتناقلها الأجيال مع مفاتيح بيوتهم وتطريز ثوب أمهاتهم ورائحة قهوتها وخبز الطابون وكعك العيد.. وحب الحياة الذى ترضعه الأمهات لأبنائها.. حتى هذا عجز علماء النفس لديهم الإجابة عن ذاك السؤال «كيف يكون حب الحب طريقه معبَّد بالدم؟».
***
وليس بعيدا عنها بحكم مسافات لا تحسب بالمؤشرات والأرقام التقليدية لقياسها بل بذاك الذى غرسته الأمهات فى الوجدان.. هناك يحمل طفلان سمكتهم التى استطاعوا أن ينقذوها بعد أن أمطرت السماء موتا ودمارا.. كثيرا منه!! ركضا بعيدا خلف أمهم وأبيهم فرحين بأن قنابلهم لم تقتل الحياة فى بيتهم الذى تحول إلى كومة من الأحجار مزركشة بألعابهم وصورهم وذكرياتهم وكراسات مدارسهم.. هما من رضعا حب الحياة والدفاع عنها لكل البشر بل كل الكائنات.. هما من عشقا جارهم البحر وترافقا مع ساكنيه من الأسماك والقواقع.. هما أيضا كانت عيونهم تلمع بنفس تلك النظرة مع مزيج من الفرح فيما تحول كل ما حولهم إلى كومة من الدمار.
***
أما هو ذاك الشاب الذى واجه الأسئلة الصعبة بكثير من اليقين والثقة والإيمان، فقد أجابهم بهدوء المنتصر رغم صعوبة اللحظة وانتشار الدمار.. تحدث بلغتهم مستخدما ألفاظهم وقرارات تلك المنظمة الدولية.. هو كما هم يواجهون إلى جانب آلة الموت هناك، آلة الإعلام الدولية والعربية المدعية الموضوعية واللابسة لرداء الحيادية والمتصورة أنها تستطيع الاستمرار فى الخداع كما وصفها تشومسكى بشكل واضح وصريح فى كتاباته المتعددة، فهى تصنع الصورة ولا تنقلها كما تدعي! عرف الجيل الشاب كيف يواجههم بنفس سلاحهم وعلى طريقتهم.. تعلم كيف يكشف كذبهم وتلاعبهم بكثير من الهدوء الداخلى لمن هم يرضعون القضية ويعيشونها ويحملونها معهم كما مفتاح بيتهم القديم الذى احتلته تلك العائلة القادمة من هناك، من كل هناك وليس هنا.
***
تطاردك الصور أو أنك تبحث عنها بين كعك العيد والرد على التهانى القادمة فى مجملها تحمل صورا من القدس وكل فلسطين من بحرها لنهرها لجبالها ووديانها وصحرائها وتلالها المكسية بالزهور، أكثر من مائة نوع من الزهور، حتى سماها ذاك العاشق بـ«أرض الورد» وعنون كتابه الذى وثق فيه ورد فلسطين المتنوع حتى لا يسرق هو الآخر كما يعملون على سرقة كل تفصيل من أسماء البلدات والقرى والمدن، إلى الأكل وتطريز الثوب والزهر ووو.. سرقات لا حدود لها.. وفيما تزهر الورود فى الربيع فى مختلف بقاع الأرض إلا فى فلسطين فلكل فصل زهرة حتى الخريف والشتاء ثم الربيع والصيف.
***
هم وحدهم يواجهون تلك الطائرات المتطورة والصواريخ «الذكية» وكل أدوات الموت المتنقل.. وهم أيضا من يرسمون الابتسامة كلما ازدادت حدة ماكينة القتل المتنقلة التى لا تفرق بين طفل وشيخ ومدرسة ومستشفى ومنزل وشارع كان آمن حتى تحول إلى حفرة من التراب وبقايا حيوات كانت هناك وستبقى هناك.