عندما فاض الكيل ببائع الحلي الشاب في سوق مراكش وأنا أساومه على سعر قطعة بديعة من الفضة الأمازيغية القديمة أطلق زفرة عميقة جدًا وقال: حاشتكيكي يا لالا، أي يا سيدة، لعادل إمام! انهارت مقاومتي وكففتُ عن ممارسة التشاطر ولعبة شد الحبل مع البائع خفيف الظل ورددت عليه بصوت مرتعش: لأ أرجوك بلاش! مشي حال ونزل السعر المطلوب إلى النصف وحصل الاتفاق، فلم يكن من الممكن أن أستمر أكثر من ذلك في المجادلة بعد أن هددني البائع بعادل إمام. لقد فهم الشاب من لهجتي بسهولة أنني مصرية واستنتج عن حق أن معظم المصريين يحبون الزعيم عادل إمام، ومع أن هذا الشاب كان يمزح بالتأكيد عندما هدد بأن يشتكيني لعادل إمام، إلا أنني أحببت أن تصله رسالة أن أحدًا لا يقوى على أن يَرُد طلبًا لعادل إمام. في اليوم التالي عندما كنتُ في تاكسي صغير أو طاكسي صغير كما هو مكتوب على اللافتة المرفوعة فوق السيارة، خطر لي من وحي قصة البائع أن أسأل السائق السؤال التالي: هل تتفرج على أعمال النجم عادل إمام؟ ردّ ببساطة شديدة: لا باتفرج على اللمبي! أدهشني ردّ السائق لأني أعرف الشعبية العربية الواسعة للزعيم، لكن الرد نبهني إلى أن الفن المصري مؤثّر في كل الأحوال، وأن قوة مصر الثقافية الناعمة تنساب بسلاسة في الوطن العربي مهما تحدّثنا عن تراجع تلك القوة أو بروز مراكز لمنافستها في هذا القطر أو ذاك، فالشخصيات والأدوار والإفيهات واللهجة المصرية قادرة على النفاذ والانتشار والتأثير. بالتأكيد فقدَت قوة مصر الناعمة وضعها الاحتكاري الذي كانت تتمتع به من قبل، خصوصًا في العصر الذهبي في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وذلك نتيجة تزايد الاهتمام بالدبلوماسية الثقافية في تنفيذ السياسات الخارجية للدول العربية، لكن قوة مصر الناعمة ما تزال موجودة ومترامية على نحو قد يفاجئنا أحيانًا بما لم نتوقّع أبدًا. وهنا أذكر تلك الواقعة العجيبة قبل نحو عام تقريبًا عندما كانت مذيعة البي بي سي -عربي القديرة رشا قنديل تحاور إيلي كوهين المحلل الإسرائيلي الداهية في البرنامج الإخباري اليومي "العالم هذا المساء" فإذا بالرجل يقول على حين غِرّة "وعلى رأي عادل إمام…كذا وكذا، حتى أنت يا كوهين؟".
• • •
نترك مجال الكوميديا وننتقل إلى مجال الغناء، وهنا أيضًا كانت قوة مصر الناعمة حاضرة. في كل الصباحات التي قضيتها في الفندق المراكشي الشهير كان محمد عامل الكافيتريا يستقبلني مرحّبًا وعلى وجهه ابتسامة عريضة. يعرض عليّ مخلصًا أن يصّب لي الشاي المغربي الشهير بالطريقة التقليدية المعروفة فأرحّب طبعًا، يأخذ الموضوع بجديّة كبيرة ويرفع ذراعه لأعلى بحنكة ومهارة فينساب شلال من المتعة المتصلة يجمع بين اللونين الأصفر والأخضر ويذوب فيه قالب ضخم من السكر والكثير من السعرات الحرارية. ببساطة نشأَت علاقة صداقة مع محمد وصرنا أثناء الفطور نتجاذب أطراف الحديث. كانت أمي رحمها الله تصف تعرّفي بسرعة على الناس بقولها "إنتِ تكلمي العفريت"، ولم أفهم أبدًا ما إذا كانت هذه ميزة أم عيبًا، ومع ذلك فهناك بعض عفاريت الإنس لا أكلمها ولا أسعى أصلًا لذلك، ولم يكن محمد بالتأكيد من هذا الصنف الأخير. سمحَت صداقتنا رغم عمرها القصير بأن يسمِعني محمد لأول مرة في السّر مقطعًا من أغنية لتامر حسني يبدأ بالآتي "لالالا ما توصينيش على حبي ليك"، وكان صوته جميلًا. وفي السّر أيضًا أخبرني بأنه يُعّد لزيارة قريبة للقاهرة لعله يجد فيها فرصته الفنية، فمازالت قاهرة المعّز في نظره هي هوليوود الشرق. التقطنا صورة سيلفي لطيفة، وعندما حانت لحظة الوداع طلب محمد أن أسلّم له على عمرو دياب! ووعدته خيرًا إن شاء الله! أما حين طلب منّي أن أسلّم له على محمد رمضان لأنه من المعجبين جدًا بصوته، فلقد اعتذرت له برفق لأنه لا يوجد لي به اتصال على العكس من عمرو دياب! ولا بأس من قليل من الدبلوماسية مع الأصدقاء.
• • •
كان نظري يجول بين أرفف إحدى المكتبات المراكشية الموجودة بمنطقة جليز، وهذا تحريف لكلمة إجليز église بالفرنسية ومعناها كنيسة، عندما تقدّم عامل المكتبة بأدب جمّ لمساعدتي. شعوب المغرب العربي بشكل عام محبّة للقراءة، والمغاربة بشكل خاص لهم اهتمام بعلوم الفلسفة والكلام، ولذلك بدا طبيعيًا أن يرشّح لي عامل المكتبة كتاب "تكوين العقل العربي" للمفكّر المغربي الكبير الدكتور محمد عابد الجابري، وهو أول كتاب في سلسلة نقد العقل العربي التي تؤمن بأن التغيير يبدأ من الفكر. شكرت صاحبنا على ترشيحه الذكي، وأخبرته أن هذا الكتاب العمدة للجابري موجود بالفعل في مكتبتي مع معظم أعماله الأخرى. وجريًا على مبدأ "إنتِ تكلمي العفريت" رحت أدردش مع العامل. لم يكن منطلقًا انطلاق محمد ربما لأنه يكبره بعدد معتبر من السنين، لكنه كان مثله ودودًا مرحبًا بمصر وأهل مصر. فهمت منه أن والده اختار له اسم نجيب لأنه كان قارئًا نهمًا لأدب نجيب محفوظ، واعتبرَ صاحبنا أن والده كان كمن يقرأ الغيب ويعلم أن ابنه ستكون له علاقة وثيقة بعالَم الكتب والمكتبات. أشار بإصبعه في حركة دائرية لعشرات الكتب المرصوصة على الأرفف، وقال إنه يستحيل عليه أن يضع كتابًا فوق الرف قبل أن يقرأه أو في القليل دون يأخذ عنه فكرة وافية. ومع ذلك يظل نجيب محفوظ أديبه المفضّل وكأن حبّ محفوظ انتقل إليه من الأب بحكم الچينات الوراثية، أما بين الكاتبات من النساء فإنه يفضّل دكتورة نوال السعداوي فبينها وبين كاتبة المغرب الشهيرة فاطمة المرنيسي نقاط اتصال وانفصال، هكذا قال.
• • •
هذه العقول والحناجر والمواهب والإبداعات وخفة الظل التي تزخر بها مصر هي ثروتنا الحقيقية ومجال تميّزنا النسبي والأجنحة التي يطير بها المصريون بسلاسة من دولة عربية لأخرى سواء للسياحة أو للعمل، فتلك المواقف التي ذكرتها في مجالات الكوميديا والغناء والأدب ليست سوى نماذج قليلة لما صادفته في رحلة قصيرة جدًا للمغرب، لكن بالإضافة إلى تلك النماذج كان هناك الكثير، فهذا سائق الحنطور الذي حدّثني عن أيقونة الكرة محمد صلاح الذي يحبّه المغاربة كثيرًا وإن كان معظمهم يشجّع ريال مدريد وليس ليڤربول، وذاك عامل المصعد الذي فتح لي الباب بأدب قائلًا "اركبي يا اختييييي" هكذا ممطوطة كما هو دارج في بعض أحيائنا الشعبية ظنًا منه أن المصريين جميعًا يتكلمون على طريقة المسلسلات التلڤزيونية، وتلك موظفة الاستقبال التي أشادت لي بفن مصممة الحلّي الشهيرة عزة فهمي، وهذا يعني أن مكوّنات قوة مصر الناعمة- خصوصًا الثقافية منها بالمعنى الواسع هي قوة بالغة التأثير والنفاذية، وهذا يستوجب حماية المبدعين من الحملات الممنهجة التي تستهدفهم والتي لا يمكن لعين منصفة أن تخطئها، وهي حملات ساحتها وسائل التواصل وأروقة المحاكم والصحف الصفراء.. إلخ. كما يتطلب الأمر أيضًا توفير المناخ لحرية الإبداع الذي هو بالنسبة للعمل الثقافي بمنزلة الروح في الجسد.
• • •
مَن الذي لا يحب مراكش؟ لا أحد، وكم في المغرب من أماكن كثيرة تُحّب، وكم في هذا البلد الكبير من محبين لمصر وفنها ممن ينتظرون زيارتك أو زيارتي ليبعثوا معنا بشكاواهم وسلامهم وتحياتهم لعادل إمام وعمرو دياب ونجيب محفوظ.