أصبح الملل من السياسيين ظاهرة ملحوظة فى الكثير من دول العالم، فى الشمال المتقدم، وفى الجنوب النامى، لا تكاد تفلت منه دولة يرتفع مستوى التعليم والوعى بين مواطنيها ويتاح لهم الوصول إلى مصادر المعرفة الثرية والمتنوعة فى عصر ثورة المعلومات.
●●●
لعلك لاحظت كيف جاهد باراك أوباما ليقنع مواطنيه وأعضاء الكونجرس بحكمة نيته فى توجيه ضربة محدودة زمنيا وفى أهدافها للترسانة العسكرية لنظام بشار الأسد فى سوريا وذلك فى ظل مؤشرات عديدة على أن غالبية الشعب الأمريكى ــ 59% فى استطلاعات الرأى ــ لا تشارك الرئيس الأمريكى رأيه، وسخريتهم من إصراره على توجيه مثل هذه الضربة، واقتراح بعض هؤلاء المواطنين الأمريكيين ــ على سبيل المزاح ــ أن يقوم الرئيس بإرسال أعضاء الكونجرس، بدلا من الجنود الأمريكيين، لمحاربة النظام السورى. ولا شك أن الرئيس أوباما كان يخشى هذه المواجهة مع الكونجرس ومع الرأى العام فى بلاده بعد أن وجه مجلس العموم البريطانى صفعة مهينة لرئيس الوزراء دافيد كاميرون الذى كان متحمسا كالعادة ليشارك الولايات المتحدة ذات العلاقة الخاصة ببلاده أى مغامرة عسكرية تتطلع للقيام بها، فقد رفض أعضاء المجلس أن تكون بريطانيا طرفا فى هذا العمل.
وبينما مازال فرانسوا هولاند متحمسا لكى تظهر بلاده بمظهر القوة العظمى التى تتحرك بقواتها على مسرح العالم كله عوضا عن فقدان شعبيته، فإنه تلقن جيدا درس مجلس العموم البريطانى واستطلاعات الرأى فى الولايات المتحدة، ومن ثم فهو يتردد كثيرا فى طرح مسألة التدخل العسكرى فى سوريا على البرلمان الفرنسى.
وهكذا فخوفا من مواجهة الهزيمة السياسية أمام المجالس النيابية فى كل من الدولتين اللتين تحمستا للعمل العسكرى ضد سوريا وللقيام بدور شرطى العالم، وإحساسا منهما بعزلتهما أمام دول العالم التى أيدت قلة منها قيامهما بهذا العمل بدون شهادة من مفتشى الأمم المتحدة بمسئولية النظام السورى عن استخدام الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، وبدون أساس قانونى لهذا العمل يتمثل فى تفويض صريح من مجلس الأمن فى الأمم المتحدة هرع الرئيسان الأمريكى والفرنسى لكى يؤيدا الاقتراح الروسى بإخضاع اسلحة سوريا الكيماوية للإشراف الدولى.
●●●
ولكن لماذا يضيق الرأى العام فى هذه الدول التى يفترض أنها ديمقراطية بسياسيى بلاده الذين قام بانتخابهم، ولماذا يمتد هذا الضيق إلى بلادنا، وهل هذه ظاهرة جديدة، وإن كانت كذلك فما هى أسبابها؟
لاشك أن أول أسباب ضيق الرأى العام بالسياسيين هو افتقادهم لحجج مقنعة تبرر سياساتهم. لقد تأملت الرئيس الأمريكى فى المؤتمر الصحفى الذى عقده فى سانت بطرسبورج فى أعقاب مؤتمر مجموعة العشرين، وكيف كان يلف ويدور ويطيل فى إجاباته على الصحفيين، وكان من الواضح أن هذا الرئيس الذى تخرج فى كلية الحقوق بجامعة هارفارد التى تلقن طلابها النجباء فن الخطابة والذى عمل محاميا ونشطا فى المجتمع المدنى فى شيكاغو قبل أن يدخل عالم السياسة كان يجد صعوبة فى العثور على حجة يبرر بها عزمه على توجيه ضربة عسكرية لنظام الأسد. لم يكن مقنعا وهو يدعى أنه يدافع عن القانون، ويكافح لوقف انتهاك لقاعدة دولية وهى استخدام السلاح الكيماوى ضد مواطنين عزل. لاشك فى فداحة هذا الجرم، ولا يملك أى إنسان ذى ضمير حى إلا أن يدين هذا العمل البشع ويتعاطف مع ضحاياه، بل ومع ثورة الشعب السورى ضد نظام مستبد.
ولكن دور المدافع عن القانون لا يليق تماما بالرئيس أوباما. ضميره لم يتحرك من قبل عندما أودى الصراع المسلح فى سوريا بحياة مائة ألف مواطن، وعندما شرد هذا الصراع، داخل سوريا وخارجها قرابة خمسة ملايين مواطن. كما لم يهتز ضميره وإسرائيل تبتلع أراضى الفلسطينيين وهو يقدم لها كل صنوف الدعم العسكرى والدبلوماسى ويعترض على إدانتها فى الأمم المتحدة. بل إن هذا الرئيس الذى يغير على القانون تستر على قيام أجهزة المخابرات فى بلاده بالتجسس على مئات الآلاف من المواطنين فى بلاده وفى بلاد أخرى فى العالم. طبعا يمكن أن يقول أن هذه الأجهزة تقوم بذلك دفاعا عن الأمن الوطنى لبلاده. ولكن ماذا عن التجسس على البريد الإلكترونى لرئيسة البرازيل ورئيس المكسيك؟ بل والتجسس على بترو براس، شركة البترول البرازيلية؟ لم يعتذر عن هذه السقطات، والتى لا يمكن أن تصدر إلا عن حكومة تضرب بالقانون الدولى والمحلى عرض الحائط.
●●●
يدرك الرأى العام فى الدول الثلاث التى تحمست حكوماتها للعمل العسكرى ضد سوريا هشاشة الحجج التى يستخدمها هؤلاء السياسيون. لا علاقة للأمر باحترام القانون، ولا حتى بتهديد الأمن الوطنى لهذه الدول، ولكنه يتعلق بحسابات ضيقة لهؤلاء السياسيين. أوباما ساخط لأن الأسد فى رأيه لم يأخذ تحذيره بأن استخدام الأسلحة الكيماوية خط أحمر مأخذ الجد، كما يدرك أيضا أن خطة أوباما بضربة محدودة تقوم على افتراضات خاطئة تهمل ردود الفعل من جانب حلفاء سوريا الإقليميين والتى قد تضر بالفعل بالمصالح الأمريكية، كما يدرك كثيرون من البريطانيين والفرنسيين أن حماس زعمائهم للعمل العسكرى هو تعبير عن الرغبة فى الظهور بمظهر القوة العظمى على نحو يدغدغ مشاعر الحنين إلى العصر الاستعمارى الذى عفا عليه الزمن، ولتحقيق انتصار رخيص يلهى الشعبين وإلى حين عن مشاكل اقتصادية ملحة. فى هذه الظروف تظهر البيانات الدولية انخفاض ثقة المواطنين فى الدول الثلاث فى السياسيين الذين يحكمونها، فتحتل الولايات المتحدة المكانة الأدنى بين الدول الثلاث والمكانة الرابعة والخمسين بين مائة وأربع وأربعين دولة على مقياس التنافسية العالمى الذى يصدره المنتدى الاقتصادى العالمى، وتأتى بريطانيا فى المكانة الحادية والثلاثين وتأتى فرنسا فى المكانة الرابعة والأربعين. وكان يفترض أن هذه الدول الموصوفة بزعيمة المعسكر الديمقراطى سوف تحتل المراتب الأعلى فى هذا المؤشر، ولكن هذا هو حال ثقة شعوبها فى سياسييها.
وليس هذا الوضع بغريب علينا. نحن نعانى فى مصر من نفس الظاهرة. أصبحت ثقتنا فى قدرة سياسيينا على العبور بالوطن إلى بر الأمان محدودة للغاية، بل هى فى تدهور. تحتل مصر المكانة التاسعة والستين على هذا المؤشر. ولا عجب فى ذلك. أخفق سياسيونا بكل اتجاهاتهم فى قيادة مرحلة الإنتقال إلى أوضاع أكثر ديمقراطية. وعندما أخفقت حكومة الإخوان المسلمين فى إظهار القدرة على أن تنصرف إلى التعامل الجاد مع التحديات الخطيرة التى تواجه الوطن على جميع الأصعدة لم يستطع السياسيون من خصومها قيادة الشعب على طريق التغيير، وتركوا هذه المهمة لشباب حركة تمرد والمواطنين الذين أيدوهم، وعندما احتدمت الأزمة بعد سقوط محمد مرسى وقف هؤلاء السياسيون عاجزين ومترددين، وتركوا هذه المسئولية لكى تضطلع بها قوات الشرطة والقوات المسلحة، وعندما أخذ الوطن يستشرف مرحلة جديدة فى تطوره، عزف هؤلاء عن السعى لكسب ثقة المواطنين وتأييدهم لأحزابهم، بل وتخلوا تماما عن الطموح لقيادة الوطن، وصرح كثيرون منهم بأن أفضل من يقود الوطن فى هذه المرحلة الجديدة ليس واحدا منهم، بل هو قائد المؤسسة العسكرية التى تعرف الأمر والطاعة، ولا تجيد فنون السياسة.
●●●
هناك أسباب عميقة تكمن وراء ملل المواطنين فى كثير من بلاد العالم من السياسيين. لم يعد السياسيون يحتكرون العلم ولا المعرفة. المواطنون المتعلمون القادرون على الوصول إلى مصادر المعلومات يتطلعون إلى سياسيين على مستوى أرفع من الحكمة وبعد النظر والقدرة على قيادة الجماهير. مثل هؤلاء السياسيين أصبحوا عملة نادرة.
أستاذ العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية