بعد أن اعتلى هتلر السلطة فى ألمانيا كما شرحنا فى مقال الأسبوع الماضى، فقد أخذ لا يفوت أى فرصة إلا واستغلها من أجل إحكام قبضته على السلطة، فتحولت ألمانيا من جمهورية فيمار الديموقراطية ــ حيث حصل الحزب النازى على الأكثرية البرلمانية قبل تولى هتلر الحكم ــ إلى جمهورية نازية شهدت واحدة من أبشع عمليات التطهير العرقى والحكم السلطوى المنفرد، فلا صوت يعلو فوق صوت القائد ولا حزب معترفا به سوى الحزب النازي!
كان يعرف هتلر جيدا كيف يمكنه تعبئة الجماهير خلفه، فمن ناحية استخدم التسويات غير العادلة التى فرضتها بريطانيا وفرنسا على ألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى من أجل الحصول على تأييد شعبى داخلى للتخلص من أعداء الدولة الألمانية ــ فى الواقع أعداء النظام النازي ــ ومن ناحية أخرى من أجل التخلص من تعهدات ألمانيا وفقا لاتفاقيات فرساى ولوكارنو.
كان العدو الرئيسى الذى استخدمه هتلر للتعبئة الداخلية هم اليهود، حيث اتهمهم هتلر بالوقوف خلف الثورة البلشفية الشيوعية فى روسيا ومن ثم اتهمهم بالوقوف وراء المد الشيوعى فى ألمانيا وحملهم أسباب الأزمات الاقتصادية التى تعرضت لها البلاد فى السنوات التالية للحرب العالمية الأولى. كان لسياسة هتلر النازية أربعة أعمدة تتمثل فى السياسة الاقتصادية، والسياسة الثقافية/الإعلامية، والسياسة الأمنية/العسكرية، وأخيرا السياسة الخارجية.
•••
فيما يتعلق بسياسته الاقتصادية فقد اعتمد هتلر على اقتصاد الحرب القائم على أعمال المشروعات الكبرى والبنية التحتية، وقطعا مشروع إعادة التسليح للجيش الألمانى، وفى سبيل ذلك تم تخصيص كل موارد الدولة من أجل دعم الآلة العسكرية الألمانية. صحيح أن هذه السياسة الاقتصادية قد عدلت من بعض الأوضاع الاقتصادية السلبية التى خلفتها أزمة الكساد العالمى ١٩٢٩ــ١٩٣٣؛ حيث زادت الاستثمارات الداخلية ــ بالأساس كانت استثمارات الدولة ــ وقلت نسبة البطالة، وعادت عجلة الإنتاج الزراعى والصناعى إلى الدوران، إلا أن ذلك بالطبع لم يكن يسير بشكل مثالى، فالعمال أصبحوا يعملون عددا أكبر من الساعات أسبوعيا ويحصلون على فترات راحة أقل، وفى الكثير من الأحيان كانوا يحصلون على رواتب أقل أيضا! لكن كل هذا لم يكن يعنى هتلر لأن هدفه الأسمى كان الوصول إلى الحرب لضم الأراضى التى خسرتها ألمانيا بعد هزيمة الحرب الأولى وإقامة الأمة الألمانية عن طريق ضم الأراضى التى يعيش بها القوميات الألمانية والتى خسرتها الأخيرة بعد التوقيع على اتفاقيات فرساى!
كذلك استخدم هتلر أدوات علم النفس بمساعدة وزير دعايته المقرب جوزيف جوبلز الذى كان أستاذا فى اللغة وسياسيا فاعلا داخل الحزب النازى منذ منتصف العشرينيات من أجل تأجيج مشاعر القومية الألمانية وعداء الأجانب واليهود وبعض الأقليات الأخرى، بالإضافة إلى خلق واقع ثقافى مصطنع لتغيير مفاهيم كثيرة ثقافية واجتماعية ارتبطت بالواقع والتاريخ الألمانى عن طريق التحكم فى الإعلام والفنون مما ساهم فى دعم الشعب الألمانى للنازية والاعتقاد أنها الطريق الوحيد لإعادة أمجاد الأمة الألمانية مرة أخرى والتخلص من أعدائها!
كذلك فقد عمل هتلر على تطوير الجيش الألمانى، فرفع عدد الجنود من ١٠٠ ألف (بحسب ما حددته اتفاقية فرساي) إلى ٦٠٠ ألف جندى، كما سعى هتلر أيضا إلى تحقيق تفاهمات مع بريطانيا من أجل تطوير القوات البحرية وفى هذا الصدد وقعت ألمانيا مع بريطانيا اتفاقية بحرية قضت بتحديد حجم البحرية الألمانية بـ٣٥٪ من إجمالى حجم البحرية البريطانية. وقد اعتبر هتلر توقيع هذه الاتفاقية نجاحا كبيرا له، بينما انتُقدت بريطانيا ورئيس وزرائها رامسى ماكدونالد بشدة من ناحية لأن توقيع هذه الاتفاقية سمح لألمانيا النازية بتطوير قواتها البحرية بشكل أكبر بكثير مما حددته اتفاقية فرساى، ومن ناحية ثانية لأن بريطانيا لم تستشر فرنسا قبل التوقيع على الاتفاقية بل ووقعت ملحقا سريا للاتفاقية يقتضى بالسماح لبريطانيا بتطوير أسطولها البحرى بشكل يفوق فرنسا وإيطاليا وهو ما يخالف أيضا اتفاقية لوكارنو وهكذا كان الحنق الشديد من فرنسا تجاه بريطانيا التى رأت أن بريطانيا تتساهل بل وتدعم النازى، إلا أن هذا الوضع لم يستمر كثيرا حيث انسحب هتلر من الاتفاقية لاحقا عام ١٩٣٩ وعادت بريطانيا لحلفها مع فرنسا حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وما بعدها.
•••
بيد أن أهم اتفاقيتين عقدتهما ألمانيا كانتا مع كل من إيطاليا واليابان وهما الشريكان الأهم لألمانيا فى الحرب العالمية الثانية. ففى عام ١٩٣٦ تمكن هتلر من التحالف مع النظام الفاشى فى إيطاليا عبر توقيع اتفاق النقاط التسع والذى كانت أبرز ملامحه اتفاق الطرفين على تعزيز التعاون بينهما ومشاورة إيطاليا لألمانيا قبل أى نشاط دبلوماسى أو سياسى بما فيه من توقيع اتفاقيات تحت مظلة عصبة الأمم (كانت ألمانيا النازية قد انسحبت من عصبة الأمم بالفعل فى ١٩٣٣)، كذلك نص الاتفاق على دعم الدولتين للنظام العسكرى فى إسبانيا، واعتراف إيطاليا بضم هتلر للنمسا بشكل منفرد، بالإضافة إلى تعهد إيطاليا بدعم تحرك ألمانيا لضم أى أراض أخرى تسيطر عليها باعتبارها مستعمرات لتوفير المواد الخام اللازمة للصناعة فى ألمانيا!
وبعد شهر واحد من الاتفاق الألمانى الإيطالى، سعت ألمانيا إلى توقيع تفاهمات مع اليابان من أجل التحالف مع نظامها العسكرى الفاشى الذى كان قد بناه الإمبراطور اليابانى هيروهيتو معضدا من السيطرة اليابانية على شرق وجنوب شرق آسيا! وقد دعا هتلر اليابان إلى التوقيع على اتفاقية مناهضة الشيوعية الدولية، بيد أن النظام الياباني ــ بعكس نظيره الإيطالي ــ كان مترددا فى توقيع هذه المعاهدة تخوفا من أن توقع أضرارا بالعلاقات الدبلوماسية الودية بين اليابان وكل من الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة وبريطانيا. لكن عبر جهود دبلوماسية وعسكرية من مستشارى الإمبراطور اليابانى وكذلك الطاقم الدبلوماسى للسفارة اليابانية فى برلين فقد تم توقيع المعاهدة أخيرا بعد تعديلها أكثر من مرة.
كان النظام اليابانى متخوفا من الشيوعية حقا فهى أيضا عدوة النظام الإمبراطورى فى اليابان، لذلك اتفق الطرفان علنا على تبادل المعلومات بخصوص الأنشطة الشيوعية الدولية والإقليمية التى قد تضر إحداهما، كما نصت المعاهدة على دعوة أطراف ثالثة مستقبلا للتنسيق بخصوص مجابهة الحركات الشيوعية!
بيد أن الاتفاق الياباني ــ الألمانى قد شهد ملحقا سريا كان هو الأخطر فى هذه المعاهدة، حيث اتفق الطرفان على تعزيز الجهود الديبلوماسية والعسكرية لتطوير الأسطولين الحربيين لكلتا الدولتين! وقد أدى إعلان هذه المعاهدة والتى انضمت لها إيطاليا أيضا فى ١٩٣٨ إلى توتر فى العلاقات الألمانية ــ اليابانية مع كل من الصين والاتحاد السوفيتى وفرنسا، فقد أدركت الدول الأخيرة أن هذه التحركات هى بمثابة تشكيل جبهة فى وسط وشرق أوروبا، بالإضافة إلى شرق آسيا وكان هذا بمثابة العد التنازلى الذى أعادت فيه كل الدول المعنية حساباتها الإقليمية والدولية، وهو ما مهد الطريق لقيام الحرب العالمية الثانية بعد ذلك بقليل وهو ما نستكمل الحديث عنه الأسبوع القادم.
أستاذ مساعد زائر للعلاقات الدولية بجامعة دنفر