أثر إيلون ماسك على الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا باستخدام بعض الأنشطة التى يقوم بها. كانت البداية عندما ناشد وزير الاتصالات الأوكرانى، بعد ثلاثة أيام من الغزو الروسى لبلاده، إيلون ماسك توفير خدمة الإنترنت عبر شركته على إثر قطعها بالكامل فى أوكرانيا. جاء الرد بعد أيام قليلة، حين بدأ إيلون فى تشغيل الإنترنت الفضائى عبر نظام «ستارلينك» للإنترنت، التابع لشركة سبيس إكس (SpaceــX). لكن غرد إيلون يوم 3 مارس ليحذر الأوكرانيين بأن عليهم استعمال الشبكة بحذر، فهى الوحيدة التى تعمل فى بعض المناطق بشرق أوكرانيا. تتميز هذه الشبكة بالقدرة على نقل حجم كبير من المعلومات دون الحاجة لكابلات أرضية، مما يجعلها خارج سيطرة الحكومات، وتشير بعض التقارير أن الهجوم الذى استهدف الطراد الروسى يوم 13 إبريل فى البحر الأسود وأدى إلى غرقه، تم بالاعتماد على شبكة ستارلينك. إضافة إلى زيادة عدد المستخدمين لشبكة ستارلينك لأكثر من 150 ألف مستخدم يوميا، كما تعتمد القوات الأوكرانية عليها فى توفير الاتصالات بين الخطوط الأمامية والقيادة.
أصبح إيلون ماسك وشركته طرفا مساندا لأوكرانيا فى المواجهة ضد روسيا، ونبه الدول والحكومات عبر العالم إلى ما يمكن لشركة اتصالات القيام به وقت المواجهات والاضطرابات. ولقد جاء أول تعقيب روسى عن أنشطة إيلون من المدير السابق لوكالة الفضاء الروسية فى شهر مايو الماضى، محملا إياه المسئولية عن تمكين أوكرانيا الاتصالات العسكرية خلال الحرب، مما يعنى أن إيلون وشركته سيتحملان تبعات ذلك. ثم جاء التعقيب التالى من دميترى ميدفيدديف، نائب رئيس مجلس الأمن الروسى، الذى تعهد فيه بتدمير الأقمار الصناعية لشبكة ستارلينك، ردا على ضلوع الشبكة فى أعمال ضد روسيا. تفيد التقارير الراهنة عن انقطاع الاتصالات عبر الشبكة فى شرق أوكرانيا بصورة شبه يومية تحول دون سلامة الاتصالات بين الجبهة والقيادة.
لم يعرف حتى الآن ما إذا كان ذلك بسبب ضعف أجهزة الاتصالات الأرضية مع الأقمار وحاجاتها للصيانة، أو بسبب تدنى كفاءة الشبكة ذاتها، أو بسبب دور روسيا فى تحييد الشبكة. وفى سياق متصل، صدرت دراسات عسكرية فى الصين منذ شهر مايو الماضى نشرتها صحيفة «ساوث تشاينا مورنينج بوست» عن الآثار المترتبة على دور شبكة ستارلينك فى المواجهات، وأوصت بضرورة تحييدها. كان ذلك سابقا على زيارة نانسى بلوسى رئيسة مجلس النواب الأمريكى إلى تايوان منتصف أغسطس. وقد يعنى هذا أن استهداف الشبكة وتحييدها أصبح جزءا من المخاطر التى تتحسب لها الحكومات. لكن بعض الحكومات تملك الإمكانيات للتصدى لهذه الشبكة، والبعض الآخر قد يفتقر لسبل المواجهة.
• • •
إليكم حجم التحدى الذى تمثله شبكة ستارلينك التى تهدف لتوصيل الإنترنت الفضائى عبر الأقمار الصناعية إلى أرجاء العالم كافة، بداية من الدول الفقيرة والمناطق النائية التى لا تتوافر فيها خدمة الإنترنت. إذ تطلق الشركة حوالى 50 قمرا صناعيا كل أسبوعين منذ أواخر عام 2019، باستخدام الصاروخ فالكون 9، ثم زادت كثافة الرحلات لتصبح مرة أسبوعيا وأدت لزيادة عدد الأقمار إلى ما يزيد على 3000 قمر صناعى، ما جعل إيلون ماسك يعلن فى 19 سبتمبر أن شركته تغطى بخدماتها أرجاء العالم كافة. كانت محطة القطب الجنوبى هى آخر محطة يتم فيها استقبال خدمات الشركة، أعلنت مؤسسة العلوم الوطنية العاملة فى محطة ماكموردو فى القطب الجنوبى (أنتارتيكا) بنجاح شبكة ستارلينك فى الاختبار، وهذا يخدم مئات العاملين بالمحطة لاسيما فى الظروف المناخية القاسية التى يعيشون فيها. وقد تردد أن تكلفة تشغيل معدات الاستقبال الأرضية للاتصال بشبكة ستارلينك ليست عالية، فتكلفة المعدات تصل إلى 600 دولار أمريكى، وتكلفة الاشتراك الشهرى 110 دولارات، وقد تنخفض مع زيادة عدد المشتركين. أما معدات الاستقبال فتعمل ببساطة، فهى طبق استقبال فوق سطح المنزل يتم توصيله بجهاز يعمل مثل الراوتر ويتيح الإنترنت داخل المنزل أو المكان. تتراوح السرعات المتوافرة للمنزل بين 50 و250 ميجا فى الثانية، وتزيد فى حالة الشركات إلى 350 ميجا. بالرغم من أن هذه السرعة أبطأ بكثير من سرعة الإنترنت الأرضى لكن الشركة وعدت بتحسين الخدمة لاحقا.
يعنى هذا أن شركة ستارلينك وصلت بالفعل لقارات العالم كافة. ولأن قيادة الشركة لا تتسم بالرشادة السياسية، فإن الشركة التى تمتلك إمكانيات تجعلها قادرة على الصول والتأثير فى أماكن المواجهات والاضطرابات، تزج بنفسها فى صراعات لا ناقة لها فيها ولا جمل. وآخر تلك المحطات كانت فى إيران، حيث أعلن إيلون يوم 24 سبتمبر الماضى بأن شركته ستستجيب لنداء المواطنين الإيرانيين الذين قطعت عنهم السلطات الإيرانية الإنترنت بعد اندلاع احتجاجات عارمة فى مختلف أنحاء البلاد إثر وفاة الفتاة مهسا أمينى بعد احتجازها من قبل الشرطة الدينية أو شرطة الأخلاق. وبهذا أصبح إيلون طرفا ليس فى العقوبات الأمريكية، ولا فى المفاوضات النووية، ولكن فى تزكية اضطرابات الشعوب. وهذه خاصية يعرفها العالم العربى جيدا، لاسيما الدول التى شهدت أحداث الثورات العربية مطلع عام 2011. حيث عانت الدول من أنشطة منصات التواصل الاجتماعى، لاسيما الفيسبوك والتويتر التى استطاعت تجميع النشطاء والحركات الغاضبة، مساهمة فى تأجيج الاحتجاجات التى عصفت بحكومات خمس دول، وباستقرار المنطقة كلها. فى ذلك الحين كان قطع الاتصالات هو الحل، لكن الآن ما هو السبيل وقد تحولت المنصات إلى الإنترنت الفضائى؟ وإذا كانت دول تملك مقومات لتعطيل أو مواجهة الأقمار الصناعية، فماذا يحدث لمن لا يملك هذه التقنيات؟ وكيف ستتغير علاقة الدول بالشركات بهذا النحو؟
• • •
ثم ماذا يحدث عندما تقرر إدارة شركة ستارلينك تغير وجهة نظرها عن مواجهة ما أو اضطرابات تجرى فى مكان ما. على سبيل المثال لا الحصر، لقد غيَّر إيلون ماسك وجهة نظره فجأة عما يحدث فى أوكرانيا، وطرح فكرة تنظيم الأمم المتحدة لاستفتاء حول المناطق الأربع التى ضمتها روسيا بالفعل فى شرق أوكرانيا. وأخرج إيلون منطقة القرم خارج الحسابات؛ لأنها من وجهة نظره كانت روسية لمئات السنين، وحصلت عليها أوكرانيا لفترة وجيزة فى عهد الاتحاد السوفيتى كجزء من الهيكلة الداخلية، لكنها ليست أوكرانية. بهذه الآراء السياسية التى تبدو وكأنها متصالحة مع وجهة النظر الروسية، تعرض إيلون لموجة نقد لاذعة من الرئيس الأوكرانى وكثيرا من مستخدمى شبكته. وصل الأمر إلى حد الشك فى أن تراجع وانقطاع الاتصالات فى شرق أوكرانيا التى توفرها شبكة ستارلينك، ما هو إلا ترجمة لاتفاق أو تفاهم تم بين الجانب الروسى وإيلون ماسك جعله يغير وجهة نظره فى حقيقة ما يجري! وهل السيطرة على شخص واحد وشركته قد تؤثر على مجرى صراعات على هذا النحو؟
باحث فى مجال السياسة والعلاقات الدولية