مشاهد الدمار والخراب الناجمة عن الاقتتال الدائر بين الأشقاء فى السودان، تضيف إلينا المزيد من الأحزان، بعد أن دخلت رقعة جغرافية عربية جديدة فى أتون احتراب على سلطة يسعى كل طرف للاستحواذ عليها بالقوة المسلحة، على حساب البسطاء الذين باتوا عالقين بين دوى الرصاص وصوت المدافع التى تنهش الأجساد المنهكة بلا رحمة، وتأتى على الأخضر واليابس فى معاندة لكل منطق.
من زار السودان واختلط بأهله الطيبين، لابد أن يتملكه الذعر وينتابه الهلع على أناس ودعاء التقاهم بلا ترتيب ذات ربيع مشمس سواء فى شوارع الخرطوم أو العديد من المناطق التى جال فيها وسط ترحيب من أشخاص بادلوه الحب الصافى الذى ينشأ عادة بين أشقاء تجمعوا بعد طول غياب.. فكانت جلسات «الونسة» عقب مائدة عامرة بكرم معتاد.
طنين المناقشات عن مصير الأوطان التى تواجه تحديات ومخاطر، والحديث عن القوى العاجزة عن تلبية طموحات الشعوب، لا تغادر الرأس الذى تتزاحم فيه الهواجس، وتنهشه المخاوف عن مصير بسطاء جمعتك بهم الصدفة ذات يوم، فإذا بهم يعودون من الذاكرة إلى الواجهة وقد علت جباههم مسحة حزن على مستقبل غامض.
ترى أين ذهبت بائعة الشاى فى السوق العربى، وهل يتجمع الدراويش كما هى عادتهم فى حمد النيل؟.. هل لا تزال الخلوات التى اعتزل أصحابها العالم بحثا عن هدوء روحى وسلام نفسى، تأمن عواقب ما يجرى حولها من اقتتال؟ ما مصير المقاهى التى اختارت حضن النيل ملاذا فى العاصمة المثلثة التى تكسو الخضرة وجهها، وتلجأ العصافير إلى أغصان أشجارها؟
هل لايزال السوق الشعبى فى أم درمان يعج برواده؟ وهل لاتزال مساومات البيع والشراء على حالها، أم طغت الآن أصوات المعارك على تكبيرات الجامع الكبير الضاربة أعمدته فى جذور تربة مدينة جديرة بالسلام والأمان؟.. هل تقدم مطاعم ود مدنى وجباتها الشهية لمن أتعبهم طول السفر فاختاروها محطة للراحة والتزود بجرعة أمل؟ أم أن أخبار المتقاتلين ملأت صحون الجائعين؟
تساؤلات عدة تفرض وجودها على متن المعارك التى حولت الخرطوم ومدن كبرى وأنحاء متفرقة من السودان الحبيب إلى ساحة حرب بين ميليشيا الدعم السريع «الجنجويد سابقا»، والقوات المسلحة السودانية التى ربت وحشا كاسرا فى عهد نظام البشير، ظنا أنه سيكون عونا للنظام فى الصراع الدموى بإقليم دارفور، فإذا بالميليشيات وقد باتت شوكة فى الظهر، لا سلاحا يمكن استخدامه فى الدفاع عن وطن تحيط به الأهوال من كل جانب.
اليوم تتزاحم المبادرات والنداءات التى خرجت من عواصم عربية وأجنبية، ومن منظمات إفريقية ودولية، لحقن الدماء ووقف إطلاق النار، وهى دعوات يجب أن تلقى استجابة من الفرقاء السودانيين، للجلوس على مائدة التفاوض كسبيل وحيد للخروج من مأزق الصراع على السلطة بتشجيع، للأسف، من قوى محلية وإقليمة ودولية لا تريد للسودان وأهله أى خير بطبيعة الحال.
الاحتكام إلى السلاح على نحو ما يجرى الآن يدفع ثمنه بلا شك الشعب السودانى الذى تتبدد ثرواته عبثا، وتتراجع قوته لصالح خصومه، وتنكسر شوكته وقدرته فى الدفاع عن مقدراته، والذود على أحلامه وآماله وحقه فى البناء والتنمية، بعيدا عن الهدم والتدمير.
وقبل أن يتحول السودان إلى ركام وحطام وطن، كما حدث مع بلدان مجاورة، يجب أن ينتهز المتقاتلون فرصة الزخم العربى والإفريقى والأممى الذى يعرض الوساطة، ويدعو لوقف حرب مجنونة لا غالب فيها ولا مغلوب، وأن يستوعب الأشقاء فى السودان أن الأوطان أبقى وأهم من سلطة زائلة.
استمرار المعارك يعقد المشهد، ويعمق المأزق، الذى سيؤدى فى النهاية إلى المزيد من الدمار والخراب، وهو مأزق فى الحقيقة لا يخص السودان وحده، بل تمتد آثاره إلى كل المحيطين به، عربيا وأفريقيا، ما يستدعى تحرك الجميع بأسرع وتيرة قبل البكاء على اللبن المسكوب!
وفى الأخير نقول لأهلنا فى السودان: «حَبَابْكُمْ عَشَرَة بَلا كَشَرَة»، وندعو الله أن تتجاوزوا هذه المحنة التى تدمى القلوب.