كانت جليلة أم الركب دراما كاملة فى حياة سيد درويش، كانت غانية اشتهرت بين أقرانها بلقب قاهرة الرجال، فقد عرفت كيف تسوسهم وتبتزهم ثم تهجرهم وقتما تريد.
هام بها الشيخ سيد حبا، وأثمر هذا الحب عددا من الألحان الخالدة بينها «أنا هويت وانتهيت» و «على قد الليل مايطول» و«ضيعت مستقبل حياتى»، وحين ساقت عليه الدلال غنـَّى «زورونى كل سنة مرة»، وظل حب جليلة هو غرامه الأوحد، وحين مارست معه لعبة الهجر والخصام، وقع فريسة للشرب والمخدرات ومات فى عز الصبا.
وحين نذكر جليلة ينصرف الذهن فورا إلى الجميلة هند رستم التى لعبت هذا الدور فى فيلم سيد درويش أمام كرم مطاوع، لكن الحقيقة أن الست جليلة التى عذبت هذه العبقرية الخالدة وجعلتها نهبا للمخدرات والكيف، كانت كتلة ضخمة من اللحم والشحم، عريضة الصدر، مدكوكة العنق، وهو النوع الذى كان يهواه الشيخ سيد على مايبدو، ومع ذلك فنحن مدينون لها بهذا العطاء العبقرى لفنان الشعب.
كان سيد درويش مع المثـَّال محمود مختار وآخرين، التعبير الفنى عن ثورة المصريين الكبرى فى عام 1919، تماما كما كانت دعوة طلعت حرب لاستقلال الاقتصاد وانشاء بنك مصر تعبيرا عن الجناح الاقتصادى للثورة، وجاء تجديده المذهل فى الموسيقى المصرية عبر مشاركته للوطنيين فى ثورتهم وجهادهم فى سبيل الاستقلال والدستور.
وبرغم أن سيد درويش فصل من السنة الثانية بالمعهد الابتدائى الأزهرى بسبب ممارسته للغناء، وكان عمره وقتها 13 سنة، فإنه لم يتنازل عن العمامة والجبة والقفطان لسنوات طويلة، وحتى حين ارتدى البدلة والطربوش، ظل ينادى بالشيخ سيد.
كان الغناء فى زمن سيد درويش لونا من الترف يمارس فى قصور الأغنياء والأمراء، وأكثره مما يخاطب الشهوات والغرائز المنحطة، وفى المقابل كانت هناك التواشيح والأذكار وحلقات الموالد، فلما جاء الشيخ سيد كان فتحا فى الموسيقى العربية، فكانت ألحانه انعكاسا حميما لحياة الناس الذين عاش بينهم، حيث عمل وسط البنائين والصنايعية، وعاشر طوائف الشعب العائشين على أكتافهم يوما بيوم واستمد منهم ألحانه الخالدة.
وبمناسبة ذكرى سيد درويش، فقد قرأت أخيرا عن تشكيك أسرته فى أسباب وفاته، فهم يؤكدون أنها كانت جنائية ــ قتله الإنجليز أو القصر ــ ولم تكن بسبب جرعة مخدرات زائدة كما نعرف.
وأيا ماكانت الأسباب فإن الحقيقة الباقية، وبصرف النظر عن حكاية الست أم الركب، أن سيد درويش ورفاقه كانوا ثمار ثورة شعبية حقيقية، ونتاج مناخ سياسى واجتماعى أشمل، وهناك فرق ــ اعلم أسعدك المولى ــ بين مناخ يكون حصاده درويش ومختار وطه حسين والعقاد والحكيم، وآخر يلقى فى وجوهنا ببعرور وزعرور وبلالة.