متعة الانتظار - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 13 ديسمبر 2024 5:38 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

متعة الانتظار

نشر فى : الخميس 17 أغسطس 2017 - 10:15 م | آخر تحديث : الخميس 17 أغسطس 2017 - 10:15 م

أى صباح جميل هذا الذى تشدو فيه نور الهدى بأغنيتها المبهجة «يا ساعة بالوقت اجرى»، تستمع إلى الأغنية وأنت فى طريقك لصنع كوب الشاى الصباحى فتغنيك عن جرعة النيكوتين التى تحتاج إليها لتنبه حواسك فى الساعات الأولى من اليوم.. تسكب الأغنية فى شرايينك قدرا كافيا جدا من النيكوتين الطبيعى المنعش فتطرد عنك الكسل وتبدأ يومك بارتياح. حدود الجمال فى الأغنية تتجاوز الكلمات واللحن والصوت إلى الأداء التمثيلى، فمن الصعب أن يستمع الواحد منا للأغنية دون أن يستحضر المشهد الخاص بها عندما كانت البطلة تتعجل قدوم حبيبها وتستحث الوقت ليسرع. مع أول نغمة فى اللحن تظهر نور الهدى وهى تطير كالفراشة من درجة لأخرى من درجات السلم الخشبى لبيتها، تصفق كالأطفال وتنتقل فى خفة محببة من تنسيق الزهور إلى تذوق الطعام إلى التجمل أمام المرآة إلى الإطلال من النافذة، وفِى كل مكان تحلق فيه البطلة لا تكف عن مطالعة ساعة يدها بل وكل ساعات البيت بلا استثناء. عبقرية لحن فريد الأطرش لا حدود لها فهى تجعل المشاهد يلهث وراء نور الهدى وهى تمط كلمة « يا سااااااااااعة» مطًا مقصودًا لكأن أنفاسها تتقطع وأيضا أنفاس مُشاهدِها.
***
تحب صاحبتُنا هذه الأغنية المفرحة جدا لكنها ليست مثل نور الهدى ممن يتعجلون الفرحة، بالعكس فإنها تجد لذة كبيرة فى انتظار المناسبات السعيدة وتشعر أن فى هذا الانتظار متعة حقيقية، الانتظار فيه خيال وترقب وفيه أيضا شوق وتأهب وانشغال بالتفاصيل الصغيرة. الانتظار بالنسبة لها يعنى ارتشاف كأس السعادة نقطة نقطة وكأن ثمة عصا سحرية تلمس مشاعرها فتُفجّر فيها ينابيع النضارة رويدا رويدا وتُرطبها تباعا. هى تَرى أننا حين ننتظر حدثا سعيدا فإننا نمتلك وعينا امتلاكا كاملا أما حين نصير فى قلب الحدث فإن الرهبة والضجة والزحام أشياء تُذهِب عقولنا ولا نستفيق إلا حين نخلو لأنفسنا فإذا بالسعادة قد صارت ذكرى. وهى تجد أن انتظار النجاح متعة لأنه يعدنا بجائزة على أيام الجهد والسهر فنروح نُشّيد قصور الأمانى حتى إذا نجحنا فعلا لم ندرِ على أى أرض شيدنا القصور، وأن انتظار الحب متعة لأنه يفتح مسامنا على مشاعر بِكر لم نعهدها فإذا وقعنا فى الحب وكان ما كان عانينا وشكونا وتضورنا. وأن انتظار الوليد متعة لأنه لا أروع من الإحساس برؤية النبتة تورق والورق يُشجِر والشجرة تُظلل وتُثمر. وهى تؤمن أن انتظار المسافرين متعة... انتظارهم متعة.
***
حانت من صاحبتنا التفاتة إلى النتيجة الورقية المعلقة على الحائط فأحيطت علما بأن اليوم هو كذا من شهر كذا، شعرت بغبطة تعرف جيدا مبعثها فلا يزال هناك ثلاثون يوما إذن حتى تزورها ابنتها وحفيدتها زيارتهما الصيفية المعتادة. عندما تزوجت ابنتها وسافرت إلى هذه البلاد البعيدة راحت تخفف عنها قائلة سأزورك مرتين فى العام، الأولى فى الصيف والثانية فى الكريسماس، وحافظت الابنة على وعدها لعامين أو ثلاثة ثم جدت فى الأمور أمور، التحقت بالعمل ولم تعد حرة الحركة كما كانت وارتفعت أسعار تذاكر الطيران جدا فمثلت مانعا حقيقيا للتواصل بين الأهل عبر القارات، وهكذا اختُزِلت الزيارتان فى زيارة واحدة واختُصِرت مدة الزيارة من شهر إلى أسبوعين، وصار هذا اللقاء السنوى العزيز مقدسا... حتى الآن.
***
عندما علِمت صاحبتنا أن أمامها ثلاثين يوما بالتمام والكمال حتى تَرى ابنتها وحفيدتها ارتاحت نفسيا، ارتاحت لأنه مازال أمامها شهر كامل للاستمتاع بمشاعر الانتظار التى داخلتها بمجرد أن تحدد موعد الزيارة. شهر كامل تطلق فيه العنان لخيالاتها وتنسج الرؤى والحكايا وتتمثل تفاصيل الزيارة الحميمة وتعيشها. ها هى تَرى نفسها لحظة اللقاء تفتح ذراعيها على استقامتهما لتسكن فيهما الابنة كما توسدتهما طفلة وتحنى قامَتَها لتطولها الحفيدة وتروح تكرر مشهد اللقاء مرات عديدة. ها هى تضع قوائم الطعام اللذيذ والزيارات المرتقبة والدعوات والمشتريات بعناية فائقة وتروح تعدلها كلما لاح لها خيار أفضل أو ظهر لها طبق أشهى. ها هى تنجز ارتباطات العمل على عجل ولولا بعض الخجل لقالت دون إتقان لتعتكف طيلة أسبوعين فى حضرة الأحبة العائدين. ها هى تنظف البيت وترتبه وتبخره وهى تعلم أنه فى اللحظة التى تبدأ فيها الزيارة والأهل فى التوافد والأطفال فى الشقاوة يصبح جهد الأيام السابقة فى خبر كان، لا شيء يبقى على حاله ولا قطعة أثاث فى مكانها، تتحول الشقة إلى ملعب يتقاذف فيه الصغار الكرات الملونة، وتصنع رغاوى الصابون أو الـ bubbles بساطا سحريا يطير بالسائرين عليه إن تخلّوا عن حذرهم، أما أغطية الوسائد فيعاد تنجيدها بعد أن تحل أوراق الكوتشينة والشيكولاتة وأقلام التلوين محل الحشو الإسفنجى المعتاد.
***
ثلاثون يوما هل هى كافية؟ عادت لتراجع جدول أعمالها وخافت أن تفاجئها زيارة الأحبة قبل أن تضع علامة صح على كل المهام التى تنتظرها. تضحك فى سرها قائلة إن نصف ما تنشغل به يمكن الاستغناء عنه فعليا لكنها مبذرة فى كل شيء.. فى المشاعر كما فى المال، من قال إن الحب كلمة لم يقل إلا نصف الحقيقة فحيثما يوجد الاهتمام فثمة حب.
***
وصلت صاحبتنا إلى مقطعها المفضل فى أغنية نور الهدى الذى يقول «جه بالسلامة ووافانى والقلب فرحان ورايق وتمر بى الثوانى أحسب حساب الدقايق» فراحت تغنى معها بكل جوارحها، تنبهَت.. توقفَت.. سألٓت: أولم تقل إنها لا تتعجل أن يوافيها الأحبة بالزيارة تلذذا بمشاعر انتظارهم؟ هربٓت من الإجابة فالحقيقة أنها تحن جدا لرؤياهم وأنها تود لو تغمض عينيها وتفتحهما فورا على مشهد اللقاء إياه. بالتأكيد هى لا تتحلى برشاقة نور الهدى وليست فى مثل عمرها لتتقافز وتجرى وتدور لكنها تملك أن تتوحد مع الكلمات المبهجة وتتقمص معانيها.. فعلت ذلك.. تنحنحت.. تلفتت من حولها.. رفعت صوتها بالغناء وراحت تشدو «يا سااااااااااااعة بالوقت اجرى»!

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات