اهتزّت الأرض فى المغرب وهدّمت منازل على رءوس أهلها، ثمّ جاء سيل الإعصار فى ليبيا ليجرف فى لحظة قرى ومدنا وأحياء كاملة مع الآلاف من سكانها إلى البحر. كانت الحصيلة مريعة هنا وهناك. الأرض تُذكِّر بأنّها الأقوى والسماء تُنذر بصوت أعلى أنّ البشر عبثوا بها وأخذوها إلى ما يهدّد بقاءهم، أى الاحتباس الحرارى والتقلبات القصوى فى المناخ. وتموضعت «السياسة» فى قلب المحنة. فهذا المغرب يرفض مساعدة فرنسا ودول أخرى عرضت إرسال فرق إنقاذ، أى ما كان يحلم به الشعب السورى يوم ضرب الزلزال منذ فترة قريبة شمال بلادهم وجنوب تركيا. ويتحسّر السياسيّون ووسائل الإعلام فى أوروبا والغرب أنّ «الدولة» غائبة فى ليبيا، ولم تقُم بصيانة السدود التى انهارت.
• • •
منطقتنا العربيّة تذكُر منذ قدم التاريخ أنها عرضة، ربما أكثر من جوارها، لغضب الأرض والسماء. فالزلازل والانفجارات البركانيّة رافقت تاريخ عمرانها. هكذا محا الانفجار البركانى فى القرن السادس عشر قبل الميلاد «حضارات» شرق المتوسط لعقود. وكان للزلزالين الضخمين سنة 1202 م، أثناء الحملة الصليبية الرابعة على المشرق فى العصر الأيوبى، وسنة 1759 فى ظل الإمبراطورية العثمانية آثار غيرت التاريخ. دون نسيان الزلازل التى دمّرت قبّة الصخرة فى القدس ومعظم مدن بلاد الشام فى القرن التاسع، أى خلال الخلافة العباسية.
وتعرف المنطقة أيضا آثار الجفاف والفيضانات. إذ تشهد جغرافيا وديان صحراء الجزيرة العربية ومصر وليبيا والجزائر وبادية سوريا والعراق آثار السيول فى تشكيل طبيعتها. فما بالنا إذا تفاقم هذا الغضب «الإلهى» الذى يزيد من آثاره عبث البشر؟
ولا ننسى «الحضارة الإنسانية» قد نشأت مع المدن ــ الدول فى بلاد ما بين النهرين والشام ومع الدول الإمبراطورية فى مصر بالتحديد بغية تأقلم البشر فى تجمّعاتهم مع تقلبات المناخ وتسخيرها لاستدامتهم. تمثلت إشكاليات الحضارة الأولى فى تشوّش هطول الأمطار وقسوة سنوات الجفاف، ممّا استوجب تنظيم الرى وتخزين المحاصيل. أمّا فى مصر، فكان فيضان نهر النيل سنويّا حيث كان يغمر كل ما فى واديه ممّا تطلب قيام إدارة تؤمّن تأقلم المصريين القدماء معه. هكذا نشأت «الدولة» كمفهومٍ وكيانٍ سياسى لتنظيم حياة البشر. ونشأت معها «الحضارة».
انتقل تنظيم «الحضارة» بعدها إلى المدن اليونانية والإمبراطورية الرومانية وغيرهما من الصين إلى الهند وفارس والحضارة «العربية ــ الإسلامية»، وتطوّر من مجرّد إدارة الزراعة والرى إلى تنظيم صناعة الحرف والتبادل التجارى عبر المسافات البعيدة. وكانت الكوارث الطبيعية التى لا قدرة على مواجهتها، كالزلازل الضخمة كما الجفاف الطويل الأمد والأعاصير، سببا فى زوال دول ومدن وحضارات. هذا عدا ما صنعه البشر بنفسهم عبر موجات الغزو الضخمة، وأشهرها تلك التى قام بها المغول والصليبيون.
والسؤال المحورى الذى يفرض نفسه هنا هو لماذا يقبل الناس أن ينتظموا فى دولة، رغم أنّها فى جوهرها «احتكار للعنف؟» لأنّه فى المقابل منوط بها تأمين الاستدامة، الغذاء والسكن والصحة وغيرها، ودرء المخاطر ومواجهة الكوارث. ينهار القبول بها عندما ينهار المقابل. وسؤال آخر، كيف تهيمن دولة أو تدمّر شعب بلد آخر ودولته؟ بالتحديد عبر إحياء التناقضات وإشعال مظالم ومطامع حقيقية ومفترضة، وتهديم مقوّمات الغذاء والسكن والصحة... كى تغدو مجرد منّة تمنحها إن أرادت عبر مساعدات وجمعيات إنسانية تخلق نفوذا على المدى الطويل.
معمّر القذافى كان مستبدّا بغيضا. ولكنّه أسس «النهر العظيم» كى يحصل أهل ليبيا المترامية الأطراف على مياه الشرب، وأسّس السدود التى لم تتمّ صيانتها منذ أن أطيح به. هذا فى بلد جرى توصيفه عادة أنّه لا توجد فيه «دولة» بالمعنى الحقيقى. ليس هذا دفاعا عن القذافى، بل ما يدورُ فى أذهان كثيرٍ من الشعب الليبى. فهل ربحوا حقّا «الحريّة» المنشودة عندما حوّلت قوى خارجية حظر الطيران إلى قصف لجيشهم؟ وعندما تمّ إنزال الأسلحة والذخائر على البلدات بهدف خلق ميليشيات متناحِرة؟ وعندما ضاعت البلاد بين هجمات القاعدة وداعش وبين حروب الدول بالوكالة فى العالم المتعدّد الأقطاب الذى لا ضابط له؟ فى المحصّلة، أصبحت ليبيا هذه «دون دولة» تهديدا لجاراتيها، تونس ومصر، كما لدول أوروبا عبر موجات اللاجئين واللاجئات.
وتساؤل آخر عما ما دفع الأوروبيين، فرنسا وبريطانيا بشكل خاص، إلى الذهاب لـ«مغامرة» كهذه، على حساب أرواح الشعب الليبى؟ ألم تكن تجربة الغزو الأمريكى فى العراق فى تدمير أسس الدولة العراقية بدل إصلاحها ماثلة مع انفلات القتال الطائفى وبروز «الدولة الإسلامية؟» وهذه الأخيرة بالمناسبة راحت تؤسس «دولة» جنونية لها، لم يتمّ القضاء عليها إلا بصعوبة كبيرة وبتحالف ضمنى للأضداد: روسيا والولايات المتحدة، الجيش الأمريكى والبيشمرغا و«الحشد الشعبى» كما فى معركة الموصل.
• • •
لا حلّ سهل لمسألة «الدولة» وانهيارها فى المنطقة العربيّة. فى حين أضحت هى قضيّة القضايا من ليبيا إلى تونس واليمن وسوريا ولبنان والعراق. لا بدّ من التعقّل فالمطالبة بـ«إسقاط نظام» يجب ألاّ تعنى إسقاط «الدولة» بل فقط تغيير السلطة التى تهيمن على الدولة، وبالتحديد تجعلها ضعيفة لا تستطيع تأمين مستلزمات شعوبها وحمايتها. وهذا التمييز العسير هو الذى يتطلب «السياسة».
الزلزال ظاهرة «طبيعية». لا يُمكن حيالها سوى التحذير من بناء منشآت خطرة كالمفاعلات النوويّة فى مناطق احتمال حدوث القوية منها، لتجنب ما حدث لمفاعلات فوكوشيما فى اليابان. وكذلك ضبط عملية العمران تبعا لمعايير دقيقة كى لا تنهار الأبنية على رءوس قاطنيها بالكامل كما حدث فى جنديرس شمال سوريا. والأعاصير ظاهرة طبيعيّة ومن صنع الإنسان، عبر مساهمة البشر فى تدمير ما وهبهم الله لهم من خلال ظاهرة الاحتباس الحرارى التى أضحت خطرا يهدد البشرية وبقاءها.
إنّ البلدان العربية هى من الأكثر عرضة لتأثّرات التغير المناخى المتسارعة، عبر انخفاض المنسوب المتوسّط لتساقط الأمطار مقابل أعاصير آنيّة وسيول مدمّرة، وموجات حرارة عالية يصعب على البشر احتمالها ترافقها عواصف رمال نتيجة تقدم التصحّر، وارتفاعٌ مستمرّ لمستوى البحر يهدّد المناطق المنخفضة، مثل دلتا النيل.
ولا إمكانية لدرء هذه المخاطر على أهل البلدان العربية سوى وجود «دولة» قادِرة، بالتحديد لأنّ منظومتها تؤمّن مستلزمات مواطنيها ومواطناتها وتحميهم من المخاطر الحالية والمحتملة. حتى فى تلك التى لا تتعرّض لتقلّبات الأرض والسماء والبشر اليوم. وإلا لا نجاة إلا عبر قوارب تعبُر... نحو دول أكثر قدرة. وإن كانت هى الأخرى تتداعى رويدا رويدا لأنّ سياسات سياسييها لا تبحث سوى عن نجاح آنى وعن شعبية على الأمد القصير، وإن كان ذلك على حساب البشر، ومواطنيها ومواطناتها فى طليعتهم.