في ١١ ديسمبر ١٩١١- وقبل أن يحمل العام عصاه ويرحل- وُلِد الأديب العجائبي نجيب محفوظ فكان ميلاده نقطة فارقة في تاريخ الرواية العربية. في العادة لا تحمل نهايات الأعوام مفاجآت كبيرة فأحد عشر شهراً تكفي لاستنفاد طاقات العالم في الفعل ورد الفعل، لكن الأمر مع نجيب محفوظ كان مختلفاً. أشعر أن وصف الأديب "العجائبي" يناسبه أكثر من وصف الأديب "الكبير" فقد كان يحمل من مبررات الإدهاش ما يليق بفرادته. يقولون إن الرتابة والإبداع لا يجتمعان فإذا بنجيب محفوظ يثبت لنا العكس تماماً، يسير جدوله اليومي في كل مرحلة من مراحل حياته مثلما تسير جداول المياه باعتيادية تامة، لكن كما يحدث أن تُحرِك النسمات المياه المنسابة في جداولها وتُماوجُها موجة تلو موجة تأتي نسائم الإبداع لتحرك أنامل نجيب محفوظ بكل جديد. في الحقيقة لم تكن النسائم وحدها هي التي تحرك أنامله فأحياناً كانت تحركها الرياح وربما حتى الأعاصير فإذا برواية كأولاد حارتنا تصبح هي حديث المدينة وإذا بثلاثيته الشهيرة تتجاوز أجيالها الثلاثة وتتحدى الزمن. ثم أنه كان يمسك بزمام قلمه كما يمسك الفارس بلجام جواده، يأذن لقلمه بالانطلاق فإذا هو ينساب على مئات الأوراق راسماً ملامح شخصياته وسابراً أغوارها ثم يرفعه فيدخل مرحلة بيات لا يسيل له حبر ولا تُسّود به صفحات إلا لماماً، كان بيات نجيب بياتاً صيفياً بسبب حساسية قديمة في عينيه.. وفي خلال هذا البيات كان يسافر إلى عروس البحر الأبيض المتوسط يسترخي ويتأمل ويفكر لكن لا يكتب ولا ينتج ولا يتحفنا حتى إذا حلّ الخريف حلّق سمّانه وملأ السماء على مدد الشوف، فكيف تهيأ له أن يقبض أنامله ويرخيها على هواه؟ السر عنده والإجابة. مثله كان أيضاً شاعرنا القدير صلاح عبد الصبور لا يحب الصيف بل وكما قيل فإنه كان يشكوه في أبياته، لكن الفارق هو أن عبد الصبور كان يعاني من حرارة الصيف ومع ذلك كان يكتب في شهوره أما صاحبنا فلا. أخيراً نلاحظ أن نجيب محفوظ جمع باقتدار ما بين الإخفاء والبوح، يخفي عن الكل زواجه لعقد كامل فلا يُكتشف أنه زوج وأب إلا عند مشاجرة لابنته مع زميلة لها في المدرسة، ويلتقي أصدقاءه وحرافيشه وفق جدوله الثابت فيثرثر معهم لساعات ولا يزّل لسانه بكلمة واحدة عن الحياة الأخرى التي ما أن يتركهم حتى يعود إليها فيجد الزوجة عطية الله والبنتين فاطمة وأم كلثوم في انتظاره.
***
جزء من عجائبية أدب نجيب محفوظ موصول بعجائبيته الذاتية فلولا قدرته الشخصية على التوفيق بين المتناقضات ما كان بإمكانه الجمع بين ما لا يجتمع بسهولة، فهو المتقافز من الكتابة التاريخية إلى الكتابة الواقعية ومن الكتابة الواقعية إلى استنطاق دخائل الأبطال مروراً بالتحليل النفسي لشخصيات رواياته. تحت عنوان "كومة ألغاز" قدّم الناقد الأردني أيمن المناصير قراءة في عمل واحد فقط من أعمال النجيب، هو رواية اللص والكلاب. أعجبني هذا العنوان جداً لأنه كما يقولون يمثل المختصر المفيد، ومن خلاله يلخص الناقد حالة الدهشة التي انتابته عند قراءة هذه الرواية بعد أن صادف كماً معتبراً من ألاعيب الكتابة اجتمع فيها كلٌ من المحاكاة والاسترجاع الزمني (الفلاش باك) والحلم، هذا فضلاً عن التراوح في التعبير ما بين استخدام اللغة الفلسفية التي غلبت على معظم الرواية واستخدام اللغة العامية واللغة الصوفية الروحانية. هذا كله في رواية واحدة؟ نعم هذا كله في رواية واحدة، وذلك على الرغم من أن رواية اللص والكلاب لم تكن أكثر روايات نجيب محفوظ شعبية فالثلاثية عند الجمهور تكسب لأن في داخل بيوتنا أكثر من سيد عبد الجواد، أما سعيد مهران فحكايته لها ملابسات خاصة ونموذج علاقة المثقف بالقارئ ليس بنفس الشيوع.
***
بشكلٍ من التعميم المخّل نستطيع القول إن كومة الألغاز التي تجمعت في رواية اللص والكلاب مبثوثة في معظم أعمال نجيب محفوظة، صحيح ليس بنفس الدرجة من التركيز لكنها موجودة، ولعله يوجد عاملان أساسيان يساعداننا على فهم جنوح نجيب محفوظ منذ بداياته الروائية الأولى على الأخذ بهذا المنحى التعبيري الملغز، العامل الأول هو خلفيته الفلسفية، والفلسفة بحكم طبيعتها هي علم إثارة الأسئلة وليست علم تقديم الإجابات، فمع أن نجيب محفوظ تردد في بداية تخرجه من قسم الفلسفة ما بين اختيار التخصص في الفلسفة والتخصص في الأدب ووقع اختياره على الأدب، إلا أنه لم يستطع- وربما الأدق القول إنه لم يرد- التخلص تماماً من الفلسفة فكان أن أبدع روايات مثل أولاد حارتنا وأمام العرش، وعندما انخرط نجيب محفوظ في إطار تيار الوعي الذي يركز على تحليل الشخصيات من داخلها قرّبه هذا أكثر من الفلسفة وهنا جاءت رواياته على شاكلة الطريق والشحاذ. أما العامل الثاني المفسر للإلغاز فهو تفضيل نجيب محفوظ الرمز للتعبير عن آرائه السياسية، وهنا كمثال تأتي رواية رادوبيس التي تناولت الفترة الملكية ورواية ميرامار التي تناولت فترة ما بعد ثورة يوليو. ذلك لا ينفي بطبيعة الحال أن نجيب محفوظ كان ينتقل أحياناً من التلميح إلى التصريح وينقلنا معه من ثرثرة فوق النيل إلى الكرنك أو من ميرامار إلى يوم قتل الزعيم- لكنه احتفظ دائماً بقدرته على إثارة الشك في نفس المتلقي وتركه في حالة البين بين. ثم إننا ينبغي ألا نهمل عاملاً ثالثاً لا يقل أهمية هو تحايل نجيب محفوظ على ضعف تفاعله الاجتماعي- بعد طعنه الغادر بسكين الجهل- من خلال تحويل مئات من أحلامه إلى قطع أدبية صغيرة في عمله المعروف باسم أحلام فترة النقاهة، الأحلام بطبيعتها ملغزة حتى وإن لاحت فيها لنجيب محفوظ وجوه يعرفها حق المعرفة فهذا سعد زغلول وهذه هي الأسرة وهؤلاء هم الرفاق، ثم من أدرانا إن كانت الأحلام أحلاماً بالفعل ولم تكن رسائل قصيرة أراد أن يوجهها نجيب محفوظ للقدر والطبيعة والقبور والحياة والأحبة؟ الإجابة عنده والسر.
***
في يوم مولده مازال هذا الأديب العجائبي قادراً على إدهاشنا ومازلنا نكتشف جديداً فيما قرأناه له، ولعله أراد ذلك وقصده وتعمده، ولعله وهو في حضن القاهرة التي أحبها كأخلص ما يكون الحب يرقد في انتظار المزيد.