نشرت جريدة الاتحاد الإماراتية مقالا للكاتب محمد عارف، يقول فيه إن كل شىء فى حياتنا يدور حول الرياضيات، لذلك يجب على الدول أن تكون دقيقة فى الإحصاءات والتقديرات والحسابات التى لا تتحكم فقط فى حياتنا خاصة فى عصر كورونا، لكن أيضا فى مشاريعنا... جاء فيه ما يلى.
من أجل أن نعرف العالم ينبغى أن نعرف كيف نحسب ونحصى ونقيم جداول رياضية. ولم تشهد البشرية من قبل عمليات حساب مماثلة لما يقوم به الآن علماء وخبراء الرياضيات والإحصاء والهندسة، الأبطال المجهولون فى الصفوف الأمامية من الحرب ضد جائحة «كوفيدــ19»، وهم يقدمون للعالم إحصاءات يومية عن عدد المصابين الذى تجاوز 90 مليونا، وعدد الوفيات الذى اقترب من مليونين، وكشفوا لنا تأثير أى قرار اتُخذَ أو لم يُتخذ للوقاية من الوباء. وكنتُ مشوشا قبل معرفة رياضيات وباء «كوفيدــ19»، وما زلتُ بعد معرفتها مشوشا، لكن بدرجة أشدّ. وما العمل إذا علمنا أن كل شىء حولنا رياضيات، وكل شىء أرقام، ومن دونها يستحيل معرفة كارثة «كوفيدــ19» وكيف يعصف بالعالم، وما المناطق والبلدان، التى ينبغى تجنب الذهاب إليها حاليا. ومن دون الرياضيات لا يمكن كشف مفارقة تاريخية عالمية عظمى، لا تُعرف بعد أسبابها، ومؤثراتها، وهى أن تحتل الولايات المتحدة الأمريكية الغنية اقتصاديا وعلميا المرتبة العالمية الأولى فى عدد الوفيات بالوباء، وتبلغ أكثر من 372 ألفا، فيما تبلغ الوفيات 150 ألفا فى الهند، حيث يعيش سُدس سكان العالم.
ولولا الرياضيات ما عرفنا حقيقة لا تُصدق، وهى أن النساء الجنس الأقوى، وأن نسبة الوفيات بينهن أقل بالمقارنة مع الذكور. ورغم أن عدد المواليد الذكور 105 مقابل كل مئة أنثى، تزيد أعداد الإناث ما بين عمر 6 و 8 سنوات عن الذكور، كذلك الأمر بالنسبة لمقاومتهن الوفاة بالفيروس، ولم يعثر العلم بعد على تفسير ذلك. وتُطمئن الرياضيات القلوب إلى أن الأطفال أحباب الله، فالوفيات بالفيروس دون عمر الحادية عشرة نادرة جدا.
وكثير منّا قد شعروا بالسرور للتوقف عن دراسة الرياضيات منذ تخرجنا من المدارس، إلا أن «كوفيدــ19» أقحمها فى حياتنا بشكل عاصف، وجعل الأرقام والحسابات والإحصاءات تتحكم ليس فقط بمشاعرنا، بل بمشاريعنا العملية حد تغيير أو إلغاء خططنا فى الإقامة والسفر والعمل، وصارت النمذجة الرياضية المبنية على أساس الحسابات والإحصاءات ونظرية الاحتمالات، أدوات حاسمة فى البقاء، وعليها تُعوِّلُ المستشفيات والمؤسسات الطبية فى معرفة ما إذا كانت تملك ما يكفى من أسرَّة وأنابيب أكسجين طبى وأجهزة تنفس صناعى. وأى بلد لا يملك تقديرات لحاجته من هذه المستلزمات الطبية يلعب بالنار. والتقديرات والأرقام والإحصاءات وحدها لا يمكن أن تكشف حقيقة ما يجرى بل تغطى أحيانا عليها. وكما يقول المثل الساخر «هناك الأكاذيب، والأكاذيب الملعونة، والإحصاءات».
وعمل العلماء حاسم فى قراءة الأرقام، وشرح معانيها لعموم الناس وللمسئولين. عالم الرياضيات البريطانى ديفيد سبلجهيلتر مُنح جائزة «فارادى» عن عمله فى إيضاح إحصاءات الوباء، وفى ضرورة الاحتراس من الاستنتاجات الساذجة مما نسمعه من أرقام، ومعرفة ماهية الأرقام بالنسبة للأفراد والدول والعالم ككل، مثل تزايد خطر الوباء مع التقدم بالعمر، أو اختلاف الإصابات بين الدول. لكن سبلجهيلتر يتجنب تفسير تفوق الإصابات فى بريطانيا على غيرها من الدول الأوروبية، وغير الأوروبية. ولا يُقيّم دور السياسة والسياسيين فى بريطانيا، حيث ارتكبت أخطاء فتاكة، ليس فقط فى التأخر باتخاذ قرارات جريئة، بل أيضا فى فساد بعض السياسيين. تكشف ذلك افتتاحية المجلة الطبية البريطانية the bmj وعنوانها «كوفيدــ19 التسييس والإفساد وكبح العلوم». وتُستَهلُ الافتتاحية بالقول: «عندما يُكبحُ العلم الجيد بالمُجمّع العلمى السياسى يموت الناس». وتقول الافتتاحية: «يدّعى السياسيون أن هذا للصالح العام، للإسراع فى توفير أدوات التشخيص والعلاج، ولدعم الابتكار وجلب المنتجات للسوق بسرعة لا مثيل لها، لكن كلا الادعاءين يبدوان ظاهريا صحيحين، وتكشف الخداعَ الأعظمَ بذرةُ الحقيقة». وبذرة الحقيقة يجلوها قول «هنرى بوانكاريه»، أحد أعظم علماء الرياضيات فى التاريخ، إن «العلم يُبنى بالوقائع، كما يشاد البيت بالطابوق، لكن كوم الوقائع ليس بحد ذاته علما، كما أن كوم الطابوق ليس بيتا».