هى مؤمنة جدا بل أكثر إيمانا من كثر من أصحاب «مظاهر» الإيمان، حتى إنها قليلة الموعظة أو التوبيخ وكثيرة الشكر والتقدير، كما إنها تبتسم كثيرا وتنشر الحب أينما حلت. هكذا عرفتها وهكذا بقينا نلتقى، هى كما هى وأنا كما أنا، لا تسمح إحدانا لنفسها أن تتخطى تلك الخطوط المرسومة بعناية ولكن بكثير من التقدير والحب.. ولكن فى لقائنا الأخير بدت شاحبة جدا ومهمومة ولكن من منا ليس كذلك والمذبحة مستمرة على شاشات التلفزة أو عبر وسائل التواصل. بقيت صامتة وسط الجمع الذى لم يبعد فى بوصلة حديثه عن غزة وكل فلسطين وما بعدها! ولكنها وبهدوء شديد طرحت السؤال الذى خلق حالة من الصمت المدوى: «أين الله؟!».
• • •
طالت لحظات الصمت ربما لأن كثيرات من الحاضرات لم يكن يتوقعن مثل هذا السؤال ومن هذه الصديقة بالذات، وربما لأنهن فى دواخلهن أو بين أنفسهن قد يطرحن السؤال عندما تصرخ الأم فى غزة بأن كل أولادها دفنوا تحت منزلهم، أو عندما يقول الطفل أحمد إنه المتبقى الوحيد من عائلة مكونة من أكثر من خمسين امرأة ورجلا وطفلا وشيخا.. ولكنهن لا يتجرأن على طرحه علنا حتى بين أقرب الأقربين رغم أن الصور من غزة كلها تحمل كثيرا من الإيمان، ولأن ردود الجرحى والجوعى والعطشى كانت دوما «الله معنا» عندما خذلنا الأقربون من عرب ومسلمين.
• • •
«الله معهم» هكذا نردد نحن أيضا المتسمرين أمام شاشات التلفزة أو المتابعين للموت العلنى فى فلسطين، أو الخارجين فى مسيرات أو ندوات أو تظاهرات ترفع شعارات كلها بالتأكيد محقة ونابعة من إيمان عميق بذاك الحق الذى لا تقتله أى دبابة ولا صاروخ ولا قذيفة «ذكية»!
• • •
هناك يتظاهرون فى غرف صنع القرار ويطالبون بوقف الدعم لتسليح الصهيونى المسعور الذى أصيب فى لحظة من الجنون بحالة أنه قادر على الإبادة وأمام أنظار العالم، ولن يقف أحد أمامه بل ربما هو يمد لسانه، وينشر بين الفينة والأخرى أخبارا تؤكد ما يعرفه كثر منا وهى أنهم جميعا معه.. مع الصهيونى فى حرب إبادته ومع القضاء على الشعب الفلسطينى أو تهجيره للمرة المائة بعد الألف أو حتى لذبحه وبتر أطرافه وتجويعه ومنع قطرة الماء عنه.. هم، أى الصهاينة، يتباهون بذلك، ألم تروا جنودهم وهم يصورون أنفسهم دون أى رادع حتى لو كان ذاك الرادع محكمة دولية أو عقابا قادما؟.. لأنهم يعرفون أنه عندما قام هتلر والنازيون بما قاموا به كان هناك كثر من اليهود، أى من أهلهم، ممن ساهموا معه كل بأسبابه وكثيرون جريا خلف مصالحهم الضيقة جدا.. فلم نستغرب أن الأقرب للشعب الفلسطينى، فى العرق أو الجيرة أو الدين أو حتى التاريخ، هم أيضا من سيحاكمهم التاريخ إن لم تحاكمهم أى محكمة دولية؟!
• • •
تعود هى لتكرر السؤال، وهى تسرد بصوت لا ينقطع ولا يتوقف حتى لأخذ النفس حكايات وهى كثيرة لأطفال ونساء ورجال وشباب وصبية وصبايا، بل لأحلام اندثرت تحت أنقاض العمارات والمبانى، وتاريخ وفن وثقافة وعلم؛ عمل الصهاينة على قتله ودفنه فى الأرض السابعة خوفا من فلسطينى أو فلسطينية أخرى تعود لتتمسك بالعلم والحب والإيمان فى مواجهة الظلم والكراهية والحقد.. تعود صديقتى بعد سردها لسؤالها الصعب «أين الله؟!» وتردد ألا يسمع صوت أمعائهم كما نحن؟ وفى محاولة للتبرير أو التخفيف عن النفس تقول: «نحن عجزة»، نعم نحن كذلك ولكنه الأقوى والأكثر عدالة، وهو معهم وهم يعرفون أنه معهم ويستنجدون به فقط بعد أن تأمل الشعب الفلسطينى منذ أكثر من سبعين عاما بأن تحرير الأرض سيأتى عن طريق الإخوة و«الأشقاء» و.. و..، عرف أهل غزة وأهل القدس والضفة وحيفا ويافا والجليل أن الأرض لن تتحرر إلا بعد أن تسقى بدمائهم هم، وبعد أن يقدموا هم أبناءهم وبناتهم وكل ما يحبون ويملكون ثمنا لها؛ للأرض والوطن.. ولكنها تعود لطرح السؤال الأصعب «أين الله؟!».