قبل أيام قابلنى زميل صحفى فى مقتبل حياته المهنية، خلال حضورى المؤتمر الذى نظمته وزارة التضامن الاجتماعى للإعلان عن جوائز لأفضل الأعمال الدرامية التى عالجت قضية التدخين وإدمان المخدرات.
الزميل قال لى :«أريد أن أعمل معكم فى «الشروق»، قلت له بأن الظروف الاقتصادية شديدة الصعوبة فى معظم المؤسسات الإعلامية. وسألت عن الأماكن التى عمل فيها منذ تخرجه، فقال لى إنه يعمل فى أحد المواقع الإخبارية المهمة، ووعدته بالرد عليه بعد التشاور مع إدارة تحرير «الشروق».
بعدها بأسبوع اتصل بى الزميل، فسألته، ولماذ تريد ترك الموقع الذى تعمل فيه، وتتقاضى منه أجرا وينشر لك بانتظام، وتأتى إلى مكان يعانى من مشاكل مالية، ولن يعينك سريعا؟.
إجابة هذا الزميل كانت صادمة، حيث قال لى: ومن قال لك إننى أريد أن أترك الموقع الذى أعمل فيه، أنا أرغب فى العمل عندكم للحصول على السمعة الطيبة وعندهم للحصول على المال؟!.
إجابة الزميل أصابتنى بشلل مؤقت فى جهازى الإدراكى!!. قلت له هذا أمر غير طبيعى، ويشبه أن سيدة تتزوج برجلين فى وقت واحد! فجاءت إجابة الزميل أن هناك كثيرين من زملائه يعملون بصحف متنافسة فى الوقت نفسه.
سألت الزميل: «إذا حصلت على خبر أو حوار أو قصة مهمة، فلمن سوف تعطيه اولا، للموقع أم لجريدتنا، أم أنك ستقدم الخبر للجهتين فى الوقت نفسه مع بعض الصياغات المختلفة؟!. فلم يجب.
الزميل لم يقدم ردا مقنعا على أسئلتى، وفى النهاية وافقنى الرأى على مضض بأنه ليس من المنطقى الجمع بين مكانين متنافسين فى وقت واحد.
اعتذرت للزميل بأدب شديد، وقلت له هذا أمر يصعب فهمه وقبوله والتعامل معه، وسوف يؤدى إلى تدمير المهنة إذا استمر هذا المنطق وتوسع.
أعرف أن تصرف الزميل وكلامه ومنطقه لم يعد غريبا للأسف، وبالفعل هناك آخرون يجمعون بين مكانين متنافسين وربما أكثر فى وقت واحد.
هذا الفساد بدأ حينما كان البعض يعمل فى قناة فضائية مثلا، ويريد أن يتعاون مع صحيفة أو موقع إلكترونى، والحجة أنه سيقدم أعمالا مختلفة للقناة عن تلك التى سيقدمها للموقع الإلكترونى أو الصحيفة الورقية. وعلى أيامنا حينما كنا شبابا كان شائعا أن البعض يعمل فى صحيفة مصرية، وبجوارها فى مكتب صحيفة عربية، يقدم لها بعض الموضوعات والحوارات المختلفة من أجل تحسين الدخل، لأنها كانت تقدم مقابلا معقولا يعين الزميل على الجنيهات القليلة التى يحصل عليه من صحيفته، خصوصا لأولئك الزملاء الذين لم يكونوا قد تم تعيينهم والتحاقهم بنقابة الصحفيين.
نشأنا على قيمة مهنية محترمة، منها أنه لا ينبغى للمحرر ألا يعمل إلا فى مكان واحد، بل إن العقد الأول الذى وقعته مع «الشروق» عام ٢٠٠٨ قادما من جريدة البيان فى دبى، كان ينص فى أحد بنوده على أننى لا يحق لى العمل فى أى مكان آخر لمدة سنة إذا غادرت «الشروق»، والحجة المنطقية فى هذا البند أننى سأكون قد عرفت الكثير من أسرار المكان الذى ينبغى أن تصان بصورة محترمة.
الآن وللأسف الشديد ولأسباب متعددة ومنها الأزمات الاقتصادية الطاحنة التى تعانى منها غالبية وسائل الإعلام، وغياب التنوع فى المحتوى وتراجع هامش المنافسة والحريات، تعرضت مهنة الصحافة وقواعدها لضربات مستمرة، ومنها أن عددا من الأجيال الجديدة لم يعد يعرف القواعد المهنية السليمة، وأهمية المنافسة، وأهمية الولاء والإخلاص لمكان العمل الرئيسى، والحفاظ على سرية المعلومات الخاصة بالصحيفة. ووصل الأمر ببعض الصحفيين إلى العمل بما يسمى بـ «نظام الجمعية»، وشرح هذا المصطلح الغريب أن واحدا منهم فقط يحضر المؤتمر أو الندوة أو الحدث ويكتبه ويوزعه على بقية زملائه، وهكذا يكون الخبر موحدا فى كل أو غالبية الصحف، فى حين أن المفترض أن كل صحفى يحضر عن صحيفته أو موقعه أو فضائيته ويكتب قصة خاصة ومعالجة مختلفة، وبالتالى نستطيع أن نعرف ونفرق بين الصحفى الجيد والصحفى «نص اللبة»!!.
أدرك أن مياهًا كثيرة قد جرت فى أنهار المهنة، وأن التطورات المختلفة قد غيرت الكثير مما كنا نعتبره بديهيات، لكن هذه الكلمات صرخة ربما يقرأها بعض الشباب المبتدئين فى المهنة، فيعودون إلى القواعد الأصلية، أو على الأقل يدركون أنهم يخترعون نظاما جديدا فى المهنة!!.