بعد سنتين ونصف السنة من تنحية مبارك وقبل الإطاحة بمرسى كانت الثورة فعليا بلا معنى، فقد تحولت إلى مجموعة شعارات، وكل من عبر عنها كان يقف فى مربع مختلف بحلول يونيو 2013. جيل الثمانينيات تعرض لما تعرض له المجتمع المصرى بأثره، فقد ضربت الاستقطابات التيارات والرموز والشخصيات السياسية التى عبرت عن هذا الجيل حتى وصلوا جميعا إلى طريق مسدود فى منتصف عام 2013، منهم من قرر الوقوف فى معسكر الإخوان الذى تزعم معظم تيارات الإسلام السياسى، ومنهم من انضم لـ«تمرد» مطالبا بإسقاط الإخوان، بينما كان يقف قطاع كبير من أبناء هذا الجيل فى موقف الحائر والأهم أن غير المؤدلجين من أبناء هذا الجيل كانوا بالفعل خسروا أحلامهم فى التغيير السلمى والإصلاح الحقيقى.
كثير من أبناء هذا الجيل كان قد حصل على قوة دفع معنوية بسبب الثورة، أحلام بلا حدود، ثقة مطلقة فى القدرة على التغير، شعور طاغٍ بالقدرة على التطور والدخول فى السباق الحقيقى للتنمية، البعض أضحى مشهورا ومسيسا، كان هناك الكثير من الفرص فى سوق العمل، فمجالات الصحافة والإعلام والبحث العلمى والأعمال المتعلقة بالمجتمع المدنى وخصوصا الحقوقى منه، فضلا عن قطاع تكنولوجيا المعلومات والاتصالات وقطاع الخدمات عموما فتحت أبوابها جميعا لأبناء هذا الجيل.
كانت الثورة أيضا فرصة للمشاركة السياسية الطاغية لأبناء هذا الجيل بعد سنوات من الانغلاق، فعدد كبير شارك على مدى العامين ونصف العام فى أنشطة الأحزاب السياسية والنقابات والحملات الانتخابية والمناظرات المجتمعية والسياسية، كانت البيئة مواتية لتحقيق كل الأحلام، حصل الجميع على خبرات كبيرة وخرج الجيل من الهم الشخصى إلى الهم العام، وشعر بالقدرة على التأثير الحقيقى فى صنع قرارات الدولة. تطور وعى جيل الثمانينيات بشكل كبير خلال هذه المدة ولكن انسحب البساط تدريجيا من تحتهم وبدأت فترة التراجع والهزيمة والأسر!
**ونواجه الآن عددا من المعضلات الصعبة!
المعضلة الأولى تتمثل فى تقبل الحقيقة! فالتعلق بحلم التغير الحتمى القادم هو محاولة لإنكار حقيقة الأمر، لا يعنى هذا أنه لن تحدث تغيرات مستقبلية فى المشهد العام فالتغير وارد فى أى وقت وقد يحدث بدون سابق إنذار ولأتفه الأسباب، لكن الحقيقة التى يجب تقبلها هى أنها مهما كانت ظروف هذا التغير فهو فى تقديرى لن يكون متعلقا باستئناف قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان ولكنه على الأغلب سيكون متعلقا بتصفية الحسابات والانتقامات المتبادلة وهنا تكمن الأزمة! هل يمكن لهذا الجيل تقبل حقيقة الهزيمة وتفهم أن أى صراع مستقبلى سيكون أشد شراسة وعنفا عن ذى قبل؟ هل سيكون هذا الجيل أكثر حنكة وخبرة ولديه من البراجماتية ما يوجه تحركاته المستقبلية؟ هل سيكون هذا الجيل متماسكا كما كان من قبل؟ هل يمكنه من رأب الاستقطابات والقدرة على التصرف كفاعل متماسك؟
أما المعضلة الثانية فتتمثل فى الوعى! لم تنجح يناير سياسيا ولكنها حتما غيرت ثقافة هذا الجيل، هذا الوعى الثقافى التقدمى يواجه بيئة سياسية شديدة الرجعية والأهم أنه يواجه مجتمع منهك بتفاصيل حياته اليومية ولا يملك هذا المجتمع من الرفاهة ليتعاطى مع القضايا المجتمعية والثقافية التى يؤمن بها جيل الثمانينيات! الأصعب أننا هنا نتحدث عن جيل كان متماسكا لكنه لم يعد كذلك، فبعض أبناء هذا الجيل أيضا قرر التخلى عن هذه القيم التقدمية لأنه تخسره أرضا مجتمعية ووظيفية، هل يسكت الجيل عن القيم التى آمن بها ليعيش أم سيواصل التحدى بما يؤمن مهما تسبب ذلك فى دفعه لأثمان طائلة قد تطال أهله وأسرته؟
فيما تتمثل المعضلة الثالثة فى الحلم! كل جيل له حلم مهما كانت الظروف، هذا الحلم هو الدافع الحقيقى وهو طاقة الأمل، فلا حياة بدون أحلام وطموحات، ما هى إذن أحلام جيل الثمانينيات الجديدة؟ إذا كانت الأحلام العامة صعبة أو مؤجلة فما هى الأحلام المشروعة فى الأجلين المتوسط والطويل؟ أعرف كثيرون متمسكون بأحلامهم البسيطة، وظيفة مستقرة وعائلة سعيدة وحياة هادئة ولكن البعض قد تخطى منتصف الثلاثينيات ولا يزال يصارع من أجل هذه الأحلام على بساطتها والخطورة الحقيقية هنا ليس فقط فى أن تفقد حلمك العام، ولكن فى أن تفقد أيضا حلمك الخاص، وقتها الحياة تصبح بلا معنى وتتحول أنت نفسك إلى شبح أو إنسان فارغ من المضمون يقوم بوجباته اليومية، فينتهى يوم من أجل أن يبدأ يوما آخر وهكذا!
أما المعضلة الأخيرة فهى معضلة الدين والعادات والتقاليد! مقدار الوعى الدينى والرغبة فى الاشتباك مع قضايا التراث والفقه والشريعة كبيرة جدا بين أبناء هذا الجيل، ليس بهدف هدم الدين كم يقول المذعورون ولكن بهدف إعادة المواءمة بين تفسيرات النصوص وبين واقع الحياة المعاصرة. التراث الدينى الذى شكل الهوية الدينية والقناعات الشخصية لهذا الجيل قبل عقدين من الزمان لم يعد صالحا ليشكل هويتهم الآن لأن جزءا من الثورة الثقافية التى تلت يناير تعلقت بالاشتباك مع الموروث عموما ومع التفسيرات الدينية خصوصا فى إطار مواجهة أوسع مع المؤسسات الدينية وممثليها الرسميين كشفت وبوضوح عن تهافت الأخيرين! فكيف يمكن لأبناء هذا الجيل الموائمة بين فهمهم الحديث للنصوص الدينية ولدور مؤسسات الدين وبين الواقع الصعب شديد التحجر الذى يعيشونه؟
***
أبناء جيل الثمانينيات الآن أكثر تقدمية من جيل آبائهم، ربما هم أقل تديننا إذا ما اعتبرنا أن المعيار التقليدى هنا هو المواظبة على الطقوس، ولكنهم أكثر انحيازا وصدقا للقيم الدينية المطلقة من عدل ورحمة ومحبة، فمثلا عددا كبيرا من أبناء هذا الجيل لا يواظبون على الصلوات الخمس كما كان يفعل آباؤهم، ليس إنكارا للدين، ربما انشغالا أو حتى ارتباكا، ولكنهم وعلى الرغم من ذلك لم يتخلوا عن معتقداتهم الدينية رغم انتشار الإلحاد ربما بمعدلات أكبر عن ذى قبل، ولكنهم يبحثون عن صيغة أكثر صدقا لمعنى الدين وتطبيقاته فى الحياة المعاصرة! أبناء هذا الجيل هم أكثر انفتاحا على الثقافات والحضارات الأخرى من أبائهم، أكثر تطورا ومهارة وقدرة على التعامل مع التكنولوجيا، أكثر جراءة من الأجيال الأكبر فى التعاطى مع الشأن العام، ولكنهم يواجهون واقعا أكثر تعاسة وتخلفا، هذا الواقع يضغط عليهم ويقايضهم على حريتهم وأكل عيشهم ويمنعهم حتى من الحق فى التعبير عن النفس والتفكير المستقل الحر بخصوص قضايا الحاضر والمستقبل.
جيل الثمانينيات خسر كما لم يخسر أحد بسبب هزيمة الثورة التى شكلت حجر الأساس فى هويته ووعيه ولكنه الآن يبحث عن صيغة توافقية لمرحلة ما بعد الهزيمة، صيغة تحفظ له حياة كريمة وحرية شخصية وهوية متفردة ومستقلة، ورغم أن الواقع مؤلم والمستقبل لا يبدو واعدا، لكن الخبرات التاريخية لدول مرت بتجارب مماثلة فى القرن الأخير من الزمان تقول إن هذا الجيل ربما تتاح له فرصة جديدة ربما بعد حين ولكن أتمنى أن جاءت هذه الفرصة مرة أخرى أن يكون أبناء هذا الجيل مازالوا قادرين على الكفاح.