الرئيس عبدالفتاح السيسى لم يعد قادرا على إخفاء ضيقه من مستوى بعض المسئولين، وما حدث خلال مداخلاته فى افتتاح المشروعات القومية من محطة معالجة مياه الصرف الصحى بالجبل الأصفر السبت الماضى كان ذروة هذا الضيق.
كنت موجودا فى خيمة الاجتماع، وسمعت كلمات الرئيس ورأيت انفعالاته.
الرئيس وجه بعض الأسئلة لمحافظ القاهرة اللواء خالد عبدالعال، عن حجم ميزانية صندوق العشوائيات بالمحافظة وهل ستغطى المرحلة الثانية مشروع تطوير المناطق العشوائية، ودخل المحافظة، وعدد مشروعات الكبارى التى تم تنفيذها؟. من سوء حظ المحافظ أنه لم يجب.
لكن الخطأ الأكبر أن نركز على هذه الحكاية الفرعية، ونهمل الموضوع الجوهرى، وهو مستوى المسئولين فى العديد من المواقع التنفيذية.
الرئيس قال للمحافظ: «أنا مقصدش حاجة بس انت هتقعد مع مواطنين، وهتتكلم معاهم، فلازم تبقى عارف كل حاجة عشان ترد، ولازم أقولهم بصرف كذا، والدولة بتعمل كذا، وده أقصى حاجة عندنا، ولا بد للمسئول أن يكون عنده سياق يتكلم فيه، خاصة أن ما حدث من غضب الناس فى ٢٠١١، لعدم وجود سياق للحديث مع الناس فى واقعهم».
الرئيس أكد أكثر من مرة أنه لا يقصد بالمثال محافظ القاهرة تحديدا، بل يوجه حديثه لجميع المسئولين، ثم خاطب المحافظ مرة أخرى: «تصدق وتؤمن بالله.. أنا عارف دخل مصر كام بالحتة، ده شغل ولازم تعرف كل جنيه فى محافظتك، وإزاى تعظمه وتكتره عشان تحل المشكلات».
طبعا سيصبح هذا اليوم الأسوأ فى تاريخ اللواء خالد عبدالعال، الذى أعرف طيبته ودأبه فى العمل منذ كان مديرا لأمن القاهرة، وأتمنى أن يتجاوزه فورا وينظر للأمام. لكن مرة ثانية لنحاول أن نناقش الأمر من زاوية موضوعية وليس شخصية.
قبل أن يوجه الرئيس أسئلته للمحافظ، كان قد قاطع العديد من المسئولين، طالبا منهم أن يتحدثوا فى سياق القضايا بصورة مختلفة.
لنحاول أن نفهم طبيعة المشكلة!.
ما يحدث فى كثير من هذه المؤتمرات المشابهة، أن المسئول يمسك بورقة مكتوبة بلغة شبه جافة ويلقيها بطريقة سردية، وهى طريقة أغلب الظن أنها لن تصل إلى الناس خصوصا البسطاء، لأنها رتيبة وتقليدية.
الرئيس قاطع أكثر من مسئول فى أكثر من مناسبة، وطلب منهم التحدث مع الناس بطريقة مختلفة. ظنى أن الرئيس لم يكن يريد من المحافظ، أو أى مسئول الإجابة
فقط على الأسئلة، بل الفهم العام للقضية، ووضعها فى سياق المجتمع وظروفه.
وبالتالى يصبح السؤال: وهل المسئولون قادرون على أداء هذا الأمر؟!.
بالطبع هناك بعض الوزراء قادرون بحكم أن لديهم إمكانيات علمية وشخصية تؤهلهم، لكن الغالبية لا تملك ذلك، وهنا يصبح السؤال لماذا؟!.
لكى يكون الوزير أو المسئول كما يريده الرئيس، فالأمر يتطلب أولا ثقافة موسوعية، وفهما عاما وكبيرا وشاملا للسياق الذى نعيش فيه، ثم مؤهلات شخصية مثل طريقة الإلقاء وفن التأثير فى الناس ولغة الجسد، والأهم من كل ذلك أن يكون الكلام صادقا ويمس حياة الناس لكى يصدقوه وتؤثر فيهم.
للأسف الشديد لا نملك الكثير من هذه النوعية فى العديد من المجالات لأسباب يطول شرحها منها انهيار منظومة التعليم طوال العقود الماضية، لكن الأهم هو غياب الحاضنات الطبيعية التى تقوم بتفريخ هؤلاء المسئولين.
المتهم الرئيسى فى هذه القصة هو غياب أو ضعف تأثير الأحزاب والمؤسسات السياسية الفاعلة والنقابات والمجتمع المدنى الذى يمد الدول والحكومة بالكوادر المؤهلة.
ترجمة ذلك أن المسئول قد يكون حاصلا على أرفع المؤهلات الدراسية، والعديد من درجات الماجستير أو الدكتوراه من أرقى الجامعات العالمية، لكنه لا يستطيع إقناع عشرة مواطنين بسطاء بقضية عادلة!.
هو لم يتدرب على ذلك، ولم يحتك بالجمهور، ولا يستطع ربط الأمور ببعضها البعض. فى حين أن السياسيين المحترفين خصوصا فى الغرب يكسبون العديد من القضايا الخاسرة.
هذه المشكلة ليس سببها الإعلام، بل المناخ العام والمتمثل أساسا فى ضعف التعليم أولا، ثم فى غياب المؤسسات السياسية والفنية التى ترفد الحكومة بالكوادر، والإداريين المحترفين. والنتيجة الختامية هو وجود مسئولين كثيرين، يتمتعون بكل الصفات الأخلاقية والشهامة والطيبة والجدعنة لكنهم ليسوا مؤهلين فى مثل هذه المناصب. مثل هؤلاء ليسوا فقط معوقين، تماما للعمل العام، بل ويتحولون إلى «كعب أخيل» الذى تنفذ منه كل السهام الطائشة والقاتلة!!.