حارت الألباب فى فهم ظاهرة الفساد، فلا تخلو دولة منه، مما يبرر للبعض القول أنه ظاهرة إنسانية تعرفها كل المجتمعات، ومع صحة هذا القول إلا أن من المؤكد أن مستوى الفساد وأنواعه تتباين من مجتمع لآخر، بل وليست على نفس المستوى داخل نفس المجتمع فى فترات تاريخية مختلفة، ومما يؤكد ذلك أن المؤشرات المقبولة عموما لشيوع الفساد تظهر أنه يرتبط سلبيا بحالة التقدم الاقتصادى والاجتماعى بين أقاليم العالم، كما يرتبط إيجابيا بدرجة الديمقراطية فى النظام السياسى. وإذا كان مؤشر إدراك الفساد الذى تنشره منظمة الشفافية الدولية سنويا وهو من أكثر مؤشرات الفساد مصداقية، فإنه يؤكد هذا الاستنتاج، فأقاليم العالم الأقل فسادا هى على الترتيب دول أوروبا الغربية تليها دول شرق آسيا والمحيط الهادى باستبعاد الصين وكوريا الشمالية، ثم دول أمريكا الشمالية، بينما ترتفع مستويات الفساد وعلى الترتيب تصاعديا من الأكثر فسادا فى إفريقيا جنوب الصحراء ثم دول شرق أوروبا وآسيا الوسطى والتى تسبقها دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. إقليمان منها هما بكل تأكيد أقل تقدما اقتصاديا وتتأرجح نظمها السياسية بين الديكتاتورية الصريحة أو المقنعة بحكم العائلة، وثالثها إقليم يعيش مرحلة الانتقال من نظم الحزب الواحد إلى نظم التعددية السياسية ومن الاشتراكية إلى الرأسمالية. طبعا هناك استثناءات داخل مجموعة الدول الأقل فسادا وحتى داخل تلك الأكثر فسادا وفقا لتعريف منظمة الشفافية الدولية.
الوجوه المتعددة للفساد
ولكن ما هو السبب فى أن مؤشر منظمة الشفافية الدولية وإن أظهر ارتباطا قويا بين الفساد من ناحية ودرجة التقدم الاقتصادى والاجتماعى وطبيعة النظام السياسى من ناحية أخرى، إلا أن هذين العاملين يقصران عن الإحاطة بكل الأوضاع المحيطة بهذه الظاهرة. وربما يحتاج ذلك دراسة أوسع مما تسمح به مساحة هذا المقال، ولكن تكفى الإشارة هنا إلى أن ظاهرة الفساد ظاهرة متعددة الوجوه، وأنه إذا كان مؤشر الشفافية الدولية يكشف عن وجه واحد لها، فإن لها وجوه أخرى يقصر هذا المؤشر عن الإمساك بها. هناك الفساد الكبير والفساد الصغير. الفساد الكبير يتمثل فى الامتيازات التى تحصل عليها الجماعة الحاكمة والذى قد يكون مكرسا بالقانون، ومن ثم لا يبدو وكأنه فساد، وهناك الفساد الصغير الذى يستفيد منه العاملون بالحكومة فى صورة رشوة أو عمولات، وربما يكون ذلك هو ما ينجح مؤشر الشفافية فى الكشف عنه. وهناك الفساد السياسى والذى يتمثل فى احتكار السلطة من جانب عائلة أو قبيلة أو مؤسسة معينة واستبعاد الغالبية الساحقة من المواطنين والمواطنات عن مجرد الاقتراب منها، وهناك الفساد المالى والذى يكون استغلال المنصب العام للحصول على منافع خاصة هو واحد من صوره. كما قد تكون هناك ممارسات يترتب عليها ما ينتج عن الفساد من إهدار موارد الدولة فيما لا يتفق مع أولويات الاقتصاد الوطنى، وهى ممارسات يندر أن يجرى إدراجها ضمن صور الفساد.
هل من سبيل ناجع لمكافحة الفساد؟
إذا كان من الصعب صياغة مؤشر واحد أو مجموعة من المؤشرات تجمل صور الفساد فى أى دولة، إلا أنه من المتفق عليه أن السبيل الناجع لمكافحة الفساد هو تبنى ما يشار إليه على أنه قواعد الحكم الرشيد وهى تلك القواعد التى تضمن أن موارد الدولة سوف تستخدم لصالح المجتمع وعلى نحو لا يؤدى إلى إهدارها، ولذلك يمكن التنبؤ، حتى عندما لا يكون هناك مؤشر محدد للفساد بأن درجة غيابه ترتبط بمدى الالتزام بهذه القواعد، ويمكن لنا أن نحكم على مدى شيوع الفساد فى أى دولة بحسب درجة اتباعها لهذه القواعد على أرض الواقع، وليس بحسب خطاب كبار المسئولين فيها. فى مقدمة هذه القواعد عدم تركيز السلطة، والالتزام بحكم القانون، والرشادة فى صنع القرار، وشفافية عمل أجهزة الدولة، وإعمال المساءلة عن كيفية التصرف فى المال العام.
أولا: عدم تركيز السلطة فى مستوياتها العليا:
أول قواعد الحكم الرشيد هى عدم تركيز سلطات الدولة فى مستوياتها العليا. طبعا يمكن أن ينص الدستور على تقسيم وظيفى لسلطات الدولة بين المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقضائية، ولكن واقع ممارسات السلطة أو الدستور الحى يشير إلى أن هذه السلطات تتجمع فى يد شخص واحد أو مؤسسة واحدة، وهى المؤسسة التنفيذية بل وقد يكشف عن تركيز هذه السلطة داخل هذه المؤسسة نفسها سواء فى مواجهة مستوياتها الأدنى، أو مؤسسات الدولة خارج الإطار الحكومى، مثل الهيئات والشركات العامة، وكذلك فى مواجهة المؤسسات الإقليمية والمحلية بل وحتى فى مواجهة القطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدنى. ولا ينتج الفساد هنا عن انحراف أخلاقى لدى من يمارسون تركيز السلطات، ولكنه ينتج ببساطة عن عجزهم عن ممارسة هذا القدر الهائل من السلطات الذى أتيح لهم بحكم القانون أو العرف السائد، ومن ثم يمارس هذه السلطات الواسعة آخرون بحسب ما يتراءى لهم. قد يترتب على ذلك إهدار للوقت وبطء فى اتخاذ القرارات فى أحسن الحالات، وقد ينتج عنه غالبا ممارسة هؤلاء الآخرين هذه السلطات بحسب مصالحهم.
وأتذكر فى هذا السياق قصة طريفة حكاها المرحوم الدكتور إبراهيم سعد الدين الذى كان نائبا لرئيس الجهاز المركزى للمحاسبات فى عهد الرئيس جمال عبدالناصر، فقد ذكر أن الرئيس جمال عبدالناصر ضاق بغياب الكفاءة فى الجهاز الحكومى، وطلب من خبير ألمانى أن يعد له دراسة عن كيفية إصلاح هذا الجهاز، وانتهى الخبير الألمانى من إعداد تقريره، وقدمه للرئيس الراحل، وكان العدول عن تركيز السلطة فى يد الرئيس أول هذه التوصيات. قرأ الرئيس هذا التقرير، ثم وضعه فى أحد أدراجه، وكانت تلك هى الحلقة الأخيرة فى مسيرة هذا التقرير.
ثانيا: الالتزام بحكم القانون:
دلالة هذه القاعدة تغيب عن الكثيرين، وذلك للمرونة الهائلة التى يتسم بها تعريف القانون فى الدول التى يشيع فيها الفساد بكل صوره. القانون بمعناه الصحيح ليس هو كل ما يصدر عن سلطة التشريع، ولكنه مجموعة القواعد العامة والمجردة والتى تصدر تحقيقا لمصلحة عامة وليس لتسهيل الحصول على منفعة خاصة أو الانتقام من خصوم الحكومة. بهذا التعريف الصحيح لجوهر القانون فإن ما يسمى بقوانين فى دولة ذات نظام سلطوى هو إعدام للقانون بمعناه الصحيح. تأملوا ذلك القانون الذى صدر على عهد الرئيس أنور السادات والذى كان يعتبر تجمع أكثر من خمسة أشخاص فى مكان واحد بدون تصريح رسمى تجمهرا يعاقب عليه القانون. ينطبق ذلك بكل تأكيد على حفل عيد ميلاد لا يكون له معنى لدى المحتفل به إذا قل عدد المحتفلين عن عشر مثلا. ولكم أن تفكروا فى نصوص أخرى تسمى بالقوانين وهى ليست من القانون فى شىء. مثل هذه النصوص هى تقنين للفساد لأنها تصدر لحماية مصالح خاصة إحدى صورها هى تكريس حكم مستبد.
ثالثا: الرشادة فى صنع القرار:
القرارات الصادرة عن مؤسسات الدولة. أى قرارات، تؤدى إلى تخصيص موارد الدولة لتنفيذها سواء كانت قرارات بإنشاء مدن جديدة، أو شق طرق أو إقامة مصانع أو زيادة مرتبات. وأيا كان حجم الموارد التى تقع تحت تصرف الدولة فإن تخصيصها يجب ألا يتم إلا بعد دراسة وحوار مع الخبراء والمختصين بالأمر وتمحيص للبدائل واستقرار على البديل الذى يحقق أعلى منفعة وبأقل النفقات. وقد أنفق خبراء السياسة العامة جانبا كبيرا من اجتهاداتهم لاقتراح أفضل سبل صنع القرار داخل الحكومة، وحتى العاملون فى القطاع الخاص المستنير يتطلبون دراسات جدوى قبل شروعهم فى تخصيص استثمارات لمشروع يدر عليهم الربح. قرار الدولة الذى يتخذ دون المرور بهذه الخطوات قد لا ينتج عنه نفع خاص لمن اتخذه، ولكنه سيؤدى فى أحسن الأحوال إلى توجيه موارد الدولة فيما لا يحقق لها أقصى نفع، وفى أسوأ الأحوال إلى إهدار موارد ضخمة فيما لا يعود عليها بالنفع ويضيع فرصة الاستفادة منها فى أوجه إنفاق ذات أولوية وقد يؤدى بها إلى استمرار الإنفاق على مشروعات خاسرة لأن العدول عنها قد يفسره البعض على أنه يلحق ضررا بهيبة الحكم.
رابعا: الشفافية فى عمل أجهزة الدولة:
تقل احتمالات الفساد عندما يكون معروفا للمواطنين والمواطنات أسباب اتخاذ قرارات معينة من جانب مؤسسات الحكومة، فما هى الدواعى التى استلزمت إصدارها، وما هو النفع المترتب عليها؟ وكيف جرت عملية اتخاذ القرار؟ وهل جرى استشارة الخبراء وأصحاب الاختصاص وممثلى المواطنين والمواطنات؟ طبعا القرارات التى تتعلق بالأمن الوطنى بمعناه الصحيح يمكن أن تستثنى من ذلك. قرارات الحرب أو التعبئة العامة، وحتى فى مثل هذه الحالات يقتضى دستورنا ألا يتم إعلان حالة الحرب إلا بموافقة مجلس النواب. الشفافية تتحقق عندما لا تخضع الصحافة وقنوات التلفزيون ومحطات الإذاعة للرقابة المباشرة أو غير المباشرة أو الرقابة الذاتية التى يمارسها العاملون بهذه الأجهزة خوفا من إغضاب سلطات الحكومة إن هم خرجوا على ما تعتبره خطوطا حمراء لا يجب الاقتراب منها. الشفافية تتحقق عندما لا يكون هناك قيد على عمل المؤسسات التشريعية والمجالس المحلية المنتخبة. وفى القرن الحادى والعشرين وشيوع استخدام أدوات التواصل الاجتماعى فإن إحدى صور توسيع نطاق الشفافية هى من خلال رفع القيود على أدوات التواصل الاجتماعى وتسهيل استخدام المواطنين والمواطنات لها لكى لا تبقى أداة لغسل وعيهم من جانب الشركات الخاصة الكبرى والمؤسسات التابعة لها.
خامسا: مساءلة المسئولين الحكوميين عن تصرفهم فى المال العام:
وبطبيعة الحال فإن مقاومة الفساد وردع من يقدم عليه يتسمان بالفعالية عندما لا يبقى المسئول الحكومى بعيدا عن أى مساءلة أيا كان تصرفه فى المال العام. هذه المساءلة تتم داخل الجهاز الحكومى ذاته من جانب القيادات العليا فيه، كما تمارسها السلطة التشريعية، وتمارسها المجالس المحلية المنتخبة، وتشارك فيها كذلك مؤسسات المجتمع المدنى والمواطنون والمواطنات من خلال الصحافة وقنوات التلفزيون ومحطات الإذاعة وأدوات التواصل الاجتماعى، ومثل هذه المشاركة الواسعة فى المساءلة تفيد صانع القرار لأنها تبين له مواضع الخلل فيما اتخذ من قرارات، ومدى حكمة المسئولين عن تنفيذه. طبعا لابد أن يتمتع المشاركون فى المساءلة من خارج الجهاز التنفيذى بروح المسئولية والمعرفة بموضوع المساءلة وبالاستعانة بآراء الخبراء ذوى الاختصاص فى القضية موضع الاهتمام.
من الواضح أن بعض قواعد الحكم الرشيد هذه لا تتوافر إلا فى النظم التى تتسم بقدر من الديمقراطية يضمن حريات المعلومات والتعبير والتجمع السلمى ومساءلة الحكام وتداول السلطة، وأن هذه القواعد ضرورية لمكافحة الفساد، ولذلك ترتفع مستويات الفساد فى النظم التى لا تضمن مثل هذه الحريات. ولكن مثل هذه الحريات هى شروط ضرورية، وليست كافية لمكافحة الفساد لأن بعض النظم الموصوفة بالديمقراطية وجدت من الوسائل ما يمكنها من الإفلات من المساءلة من خلال خداع المواطنين والمواطنات كما هو الحال فى النظم الشعبوية مثلما كان الحال فى الولايات المتحدة فى ظل إدارة ترامب أو فى الهند تحت حكم ماريندرا مودى وحزب جاناتا. ولكن يمكن القول بأنه فى هذه النظم احتمال تداول السلطة يظل قائما، ويشكل نوعا من ممارسة المساءلة تجاه هؤلاء الحكام، وهو أمر تفتقده النظم السلطوية.