نصحتُ صديقتي الفلسطينية العزيزة بأن تزور معرض تراثنا قبل أن تغادر القاهرة عائدة إلى مقر عملها في بيروت فقالت: "سامعة فيه ورايحة له"، وعندما اتصلتُ بها لاحقًا لمعرفة انطباعها بعد زيارتها المعرض كان جوابها "أنا اتهبلت"، ففرحتُ جدًا بهذا التعبير البسيط عن إعجابها بتراثنا. كنتُ أعرف مسبقًا أنها ستحّب معروضات تراثنا، وإن النقوش فوق الثياب والشيلان والحلّي السيناوية ستحرّك حنينها الدفين إلى فلسطين الحبيبة، فالتراث مشترك كما أن الدماء تمتزج، وهذه الأشكال الهندسية الرائعة بكل ألوان الطيف مع مكانة خاصة للون الأحمر-هذه الأشكال أبدعها فنانون بالسليقة بعضهم مقيم في سيناء وقلبه معلّق بفلسطين والبعض الآخر مقيم في غزّة أو في الضفّة لكنه يعرف مصر معرفته بكفّ يده. ومع ذلك فإن اختزال منتجات تراثنا في الشغل السيناوي الجميل لا يعطي تلك المنتجات حقها ولا هو يدّلنا على كم التنوّع في مشتروات صديقتي الفلسطينية من المعرض لتزيّن بها شقتها الجديدة في حي الرملة البيضاء بست الدنيا.
• • •
أحب جدًا كل سنة أن أكتب عن معرض تراثنا، فإذا كان معرض القاهرة الدولي للكتاب هو أهم مناسبة ثقافية مصرية، فإن معرض تراثنا هو أكبر مناسبة حِرَفية مصرية. تتجوّل فيه فتجد منتجات الفخّار والأخشاب والجلود والفضة والنحاس والزجاج والنسيج وكل شيء بالمعنى الحرفي للكلمة. هوانم يأتين لعرض مشغولاتهن ذات الذوق الرفيع مع تذكيرك بلطف بأنه يمكنك الرجوع إلى "البيزنس كارد" تبعهن إذا ما أعجبتك البضاعة. ونساء بسيطات جدًا يغرينك بتذوّق طعامهن الحلو والمالح ويعرضن عليك التواصل معهن تليفونيًا لأنهن لا يملكن بطاقات للتعريف ولا يحتجن لها. هكذا وبمنطق معيّن فإن معرض تراثنا يصنع جسرًا بين الطبقات الاجتماعية ويكسر احتكار العاصمة للشهرة فهنا تجد: أسوان وأسيوط والمنيا وسيناء والإسكندرية ودمياط.. هنا تجد لهجات وأزياء وألوان مختلفة للبشرة.. هنا تجد مصر. تشكو لي إحدى العارضات- وكنتُ قد اكتسبتُ صداقتها بتكرار زياراتي للمعرض- من أن "دكتورة جامعة من مصر أي من القاهرة- تنافس باقي العارضات اللاتي تتعيشن حصريًا من صناعة المشغولات اليدوية، وتسأل بعتب "هو يعني ينفع إن إحنا نشتغل دكاترة زيها؟". لا ما ينفعش.. أرّد عليها.. ما ينفعش لأن الفن معطى والعلم اختيار.. وفي رأيي أن واحدة من أهم مزايا هذا المعرض أنها أتاحت لكل امرأة تتحلّى بالموهبة أن تستثمر موهبتها وتكسب منها، يستوي في ذلك أن تكون هذه المرأة من حملة الشهادات العليا أو لا تكون، فالفن لا يعرف الاحتكار، واستثمار الموهبة يوّفر الأمان المادي الذي يصون كرامة المرأة. لم تقتنع صديقتي العارضة، لكنها لم تواصل النقاش.
• • •
يخطف قلبي هذا الجناح الذي يخصص أصحابه عائد بيع منتجاتهم من العباءات النسائية لصالح أطفال مرضى السرطان. معروضات الجناح فيها فكرة وفيها ذوق ولها شخصية وهذا شيء محترم لأنه يعني أن العارضين يبيعونك فنًا لا شفقة. فعلى الرغم من أن الجمع بين الطفولة وهذا المرض اللعين في جملة واحدة سيدفعك حتمًا للتعاطف، لكن لعلك تفضّل مثلي ألا تكون مشاعرك عُرضة للابتزاز. أما الجناح الذي يعرض منتجات مصنوعة من مخلّفات البيوت بعد إعادة تدويرها ففيه من بهجة الألوان ودقة الصنع ما يجعلك تنسى تمامًا أن الأصل في تلك المعروضات البديعة كان كومة من النفايات. هل يُعقَل فعلًا أن هذا الكليم الوثير كان في الأصل عبارة عن بضع قصاقيص ملقاة في سلة المهملات؟ بلى هو كذلك. تقع عينى على شال أسود من التللي برسومه الدقيقة المميزة وخيوطه الفضيّة اللامعة، ومَن يهوى التللي يعلم أن هذا الفن توارى سنين طويلة قبل أن تعيده أنامل المبدعات للحياة من جديد. كانت بطلات سينما الأبيض والأسود تكثرن من لبس الثياب المصنوعة من التللي بذوق لا يُعلى عليه، وهل ينسى أحد بهاء ثوب أسمهان في فيلم غرام وانتقام وهي تطوف على الحضور حاملة أبريق القهوة وتغني لهم بصوتها الملائكي "آه يا مين يقولي قهوة؟" لا أحد ينسى صوت أسمهان أو رقص سامية جمال وتحية كاريوكا وجميعهن من عاشقات التللي. ثم فجأة بدا أن هذا الفن الجميل قد اندثر فلم نعد نشاهده لا على شاشات السينما ولا على أرض الواقع، لكن ها هو يعود بإفراط لنراه على كل شكل ولون فمحبوه كثر وسوقه واسع، وهو مثال واضح على التفاعل بين الثقافات فالكثير من رسومات التللي مشترك بين العرب والأمازيغ، فإن أنت زرت الجزائر أو المغرب أو ليبيا وجدت العرائس والمثلثات تزيّن النسيج الأمازيغي كما هي تزيّن النسيج المصري بالتمام، ومعلوم أن في واحة سيوة أيضًا يعيش الأمازيغ. نلاحظ هنا أن هذه هي المرة الثانية التي أتحدث فيها داخل المقال عن تضافر الفن المصري مع الفن العربي، فالذائقة الفنية واحدة. اقتربتُ من جناح التللي وسألت عن سعر الشال الأسود فاعتذرَت لي العارضة الشابة في خجل بأن الشال محجوز للوزيرة فلانة! إنها لفتة طيبة أن تتشّح مسئولة كبيرة بشال من صنع هذه الفنانة الشابة. لا نحتاج بالضرورة لأن ندعو للحث المباشر على تشجيع المنتَج المصري.. بادرة كتلك تفي بالغرض.
• • •
هذه الأجنحة للجمعيات الأهلية والوزارات المختلفة والمجلس القومي للمرأة تفتح أبواب الرزق لأجيال لديها تفكير مختلف عن تفكير الأجيال القديمة التي كانت تؤمن بأن مَن فاته الميري يتمرّغ في ترابه. لم يعد الميري متاحًا بالضرورة، وإن أتيح فعائده محدود لأنه يرتبط بالتكرار، وعالَم اليوم هو عَالم الأفكار الجديدة. أمام لوحة كبيرة لجواد يكاد يركض خارج الإطار من فرط إخلاص الفرشاة، قالت لي امرأة خمسينية إنها قضت في رسم اللوحة ثلاثة أشهر كاملة. تتحمّس يومًا وتتكاسل آخر، ترسم ساعة وتتخيّل ساعات، وفي النهاية صرنا أمام جوادها بجموحه وعنفوانه ولجامه المفكوك. قصة المعاناة أثناء عملية الخَلق الفني هذه سمعتها تقريبًا من كل العارضات اللاتي التقيتهن، وأنا شديدة الإيمان بما سمعتُ فليس أصعب من أن تأتي بفكرة جديدة. وتلك الساعات والأيام والشهور هي الضريبة التي يدفعها المبدعون، تعذبهم نعم وتؤرقهم نعم لكنها تصقلهم بل قل إنها تصنعهم.
• • •
انتهى معرض تراثنا، وانتهت معه المشاوير رايح جاي من مصر الجديدة إلى التجمع وبالعكس، مشاوير طويلة لكنها على قلبي زي العسل كما يقولون، فبين تلك الأجنحة التي تطير بالعارضين فيها إلى سماء الفن والإبداع-أحب جدًا أن أكون.