أسفر هجوم سيبرانى قبل أيام على مواقع حكومية عدة فى دولة أوكرانيا عن تعطل خدمات كثيرة، وخروج بعض المواقع الإلكترونية الهامة عن العمل لساعات. واعتلت موقعَ وزارة الخارجية الأوكرانية رسالةٌ تقول: «الأوكرانيون! أصبحت جميع المعلومات المتعلقة بكم علنية. خَفْ وتوقع ما هو أسوأ. إنه ماضيك وحاضرك ومستقبلك». تشير أصابع الاتهام للهاكرز الروس، وحملت الكثير من البلدان الأوروبية روسيا المسئولية عن الهجمات. كما تدخل الناتو بالمساعدة للجانب الأوكرانى، وأعلن أنه بصدد عمل اتفاق دفاعى مع أوكرانيا للتصدى للهجمات السيبرانية. وبعد ساعات أعلنت أوكرانيا أنها استعادت صفحاتها الإلكترونية وأنها تعمل بشكل طبيعى. ثم أكد جهاز المخابرات الأوكرانى أنه لم يتم تسريب أى بيانات عامة أو خاصة وأن الوضع آمن فى جميع المواقع الإلكترونية. أو هكذا يتم الترويج لنتيجة الهجوم. ولكن لو سلمنا بأن الهاكرز الروس استطاعوا مجرد تعطيل عشرات المواقع الإلكترونية الحكومية على هذا النحو فى وقت توتر وسجال بين روسيا من جانب وأوكرانيا والغرب من جانب آخر، فإن هذا يؤشر إلى أن روسيا ما زالت تملك زمام المبادرة.
ولنستحضر الخلفية التى أدت لهذا الهجوم السيبرانى، فلقد أدى عدم الوصول لاتفاق فى محادثات جنيف بين روسيا والغرب حول تمدد الناتو شرقا لتفاقم حالة التوتر بين الجانبين. وفور الإعلان عن فشل المفاوضات، اندلع الهجوم السيبرانى. وبمتابعة ما قاله الرئيس بوتين قبل فشل المفوضات، نجد اتهاما صريحا منه للغرب بأنه «أتى بصواريخه على حدودنا»، بينما الناتو يقول إن انسحاب روسيا من معاهدة السماء المفتوحة فى مطلع يناير 2021 هو الذى أدى لهذا الوضع الذى وجدت أوروبا نفسها فيه بحاجة لموازنة اختلال القوة. بينما روسيا تقول إن انسحاب واشنطن فى صيف 2020 من نفس المعاهدة هو الذى أحدث الخلل فى توازن القوة هذا. وكل طرف يحمل الآخر المسئولية عما آلت إليه الأوضاع. وبعد فشل المحادثات، قال سيرجى لافرورف فى المؤتمر الصحفى السنوى الخاص بوزير الخارجية الروسى أن موسكو «لا تستطيع الانتظار للأبد للحصول على رد الناتو على اقتراحاتها»، وطالب بالحصول على رد كتابى لما قدمته روسيا من مقترحات مكتوبة للغرب. ثم شدد على جاهزية روسيا «لكل السيناريوهات فى الأزمة مع الغرب». وفى تعليق شامل على الأزمة، قال لافروف: «الوضع الدولى لا يتحسن والغرب يستمر فى سياسة فرض نظام عالمى جديد».
• • •
ليس واضحا المقصود بفكرة النظام العالمى الجديد، هل هو النظام الذى يكون فيه الهيمنة للغرب؟ فما هو الجديد فى هذا؟ أم المقصود خروج العالم الآن من عباءة القطب المهيمن إلى عالم متعدد الأقطاب؟ وإذا كان هذا هو المقصود فهل تسعى روسيا لترسيخ نفسها كقطب بين الأقطاب عبر الحد من توسع الناتو شرقا؟ وماذا عن باقى الأقطاب، مثل الصين التى لا تعلن عن موقف فى التوتر الروسى مع الغرب. كما لم تدلِ حتى بتصريح بخصوص ما حدث على اعتابها فى دولة كازخستان، وتركت الأمر كله للتعامل الروسى مع الأزمة لحين استطاعة الحكومة استعادة السيطرة على الأوضاع بداخل كازاخستان. فهل تحاول الصين تفويت فرصة أى تصعيد إضافى مع الغرب، لاسيما بعد إعلان الولايات المتحدة مقاطعة الأولمبياد الشتوية المزمع إقامتها فى بكين الشهر المقبل؟ على أى حال لا يوجد جديد فى فكرة النظام العالمى الجديد، فلا التحرك على الأرض يفرض أمرا واقعا ونظاما عالميا جديدا، ولا الهيمنة الغربية على مقاليد العالم تعتبر نظاما جديدا. وحتى رحلة صعود الصين كقطب جديد لا تعبر عن تجربة جديدة فى التاريخ، فلقد سبقها الاتحاد السوفيتى وكان العالم منقسما بين معسكرين. علما بأن التاريخ قديما وحديثا يشير لخاصية هامة تصاحب تعدد الأقطاب، وهى عدم الاستقرار السياسى الدولى، الذى أدى لحروب عالمية فى السابق.
• • •
قد تنتهى لاحقا أزمة أوكرانيا باتفاق يحفظ ماء الوجه بين جميع الأطراف ولو إلى حين. لكن سيكون استقرار هذا الاتفاق رهنا لمدى معالجة الأمور جذريا. حيث تدور المعركة الأساسية حول فرض الإرادة بين كل من روسيا والناتو. ومن غير المرجح تفاقم الوضع إلى درجة يصعب العودة منها إلى نقطة التفاوض. وإذا جرى ذلك فإن عواقبه ستكون وخيمة على الكافة، وليس على روسيا بمفردها، فمن المستبعد تراجع روسيا عن مطالبها لاسيما والناتو يطوقها من دول البلطيق، والآن أوكرانيا، وحاول من قبل التوسع فى جورجيا وفشل، وفى انتزاع بيلاروسيا وفشل أيضا. وقد يكون هناك ارتباط بين أحداث كازاخستان والتصعيد فى أوكرانيا، بغرض فتح جبهة إضافية أمام روسيا تشتت جهدها المنصب على أوكرانيا. وقد يكون الأمر مرتبطا أكثر بالمواجهة الباردة مع الصين. وبوسعنا القول أن الرئيس الأمريكى السابق دونالد ترامب أحدث تغييرا فى السياسة الخارجية الأمريكية، حيث أصبحت فرملة الصعود الصينى ومشروع طريق الحرير، تحتل أولوية متقدمة عن احتواء الغضب الروسى وفكرة توسع الناتو. ولعل الإدارة الأمريكية تريد إنهاء موضوع أوكرانيا بسرعة، لكيلا تنشغل واشنطن بمعركة جانبية على حساب الملف الصينى.
فاجأت روسيا الناتو بالمبادرة بعمل هجمات سيبرانية، أزالت فكرة الردع الغربى، وأحرجت الناتو، وجعلت المواطن العادى الأوكرانى يرى عواقب التصعيد مع روسيا تصل لكل الخدمات الحكومية فى ثوانٍ معدودة، وتؤثر على حياته. وفى ذات الوقت مازال الغرب يهدد بفرض عقوبات، ويتوعد روسيا بإجراءات عقابية حال أى اجتياح لأوكرانيا، ولكن هذا لم يردع روسيا عن الهجمات. ولحين وصول الأزمة الأوكرانية للحل بطريقة أو بأخرى، فإن العالم الرقمى يتوسع بالهجمات السيبرانية ويحدث أثرا ولا يبالى. وإذا لم تصل الدول لاتفاقية لترتيب استعمال الرقمنة فى العالم، فإن العالم الرقمى سيغير العالم الذى نعرفه، بأسرع مما نتصور، وسيفرض نفسه على الكافة. لاحظ أن القائم على تطوير العالم الرقمى هم المبرمجون وليس الساسة، والقائم على صناعتها الشركات وليست الدول، ولا يقتصر استخدامها على الهاكرز التابع لأجهزة الدول وإنما الهاكرز الأفراد لهم قدرات على نفس المستوى، بدون أن نعرف شيئا عن أفكار المبرمجين التى تشكل عالمنا الجديد.