نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب إيهاب خليفة، يقول فيه إن الرغبة فى الحياة الأبدية ليست جديدة على الفكر الإنسانى، بل سعى عبر التاريخ العديد من الملوك والأباطرة إلى الخلود ليتمتعوا بما امتلكوه من مال ونفوذ، وفى عصرنا الحالى تنتهج الشركات التكنولوجية العملاقة نفس النهج (تمديد الحياة وهزيمة الموت) باستخدام الذكاء الاصطناعى. لكن الكاتب شكك فى نجاح هذه المحاولات من منطلق أنه من غير المعقول أن تتحمل طاقة الإنسان النفسية هذا الكم من الذكريات والأفكار دون أن تنهار وتفكر فى الانتحار... نعرض من المقال ما يلى.
لا يوجد فى الحياة البشرية حقيقة مطلقة مثل الموت، ولا توجد «مصيبة» أعظم منه، فهو الكارثة التى يقف أمامها البشر عاجزين، ليس فقط غير قادرين على إرجاع الميت للحياة، بل حتى غير قادرين على فهم ماهية الموت وطريقه نحو العالم الآخر. ومع ذلك استطاعت البشرية خلال العقود القليلة الماضية أن تحتوى «الموت» بصورة أو بأخرى، فتطورت علوم الطب وقضت على الأوبئة التى كانت تسبب الموت لا محالة، مثل الملاريا والطاعون والسل والكوليرا، وحتى الأمراض التى لم يتوفر لها علاج ولم تُقهر حتى الآن مثل السرطان والإيدز والزهايمر، نجح الطب فى إبطائها، واستطاع مريض الإيدز أو السرطان أن يتكيف معهما بدرجة ما. كما نجحت السياسات البشرية فى احتواء فيروس كوفيدــ19 فى وقت قياسى، وبدأ بعض العلماء
والمفكرين ينظرون إلى الموت على أنه مجرد تحدٍ يمكن التعامل معه وليس كارثة، وغالى البعض فى تصوراتهم حتى رأوا أنهم بإمكانهم «هزيمة الموت».
• • •
إن الرغبة فى الحياة الأبدية ليست جديدة على الفكر الإنسانى، فدائما ما كان يظهر عبر التاريخ ملوك وأباطرة يسعون إلى الخلود فى الدنيا، ويبحثون عن ينبوع الحياة الأبدى أو «إكسير الحياة»، ويستعينون بالأطباء والسحرة ورجال الدين لتحقيق الخلود والحفاظ على الشباب الدائم أو على الأقل «تأجيل الموت» لأكبر فترة ممكنة. لا ألوم عليهم رغبتهم فى تحقيق الحياة الأبدية لهم، فهم بالفعل امتلكوا من القوة والثروة والنفوذ ما يجعلهم يمتلكون الدنيا بكل ما فيها، وبالطبع لا يرغب إنسان تحكمه قيمه المادية فى أن يترك جنته الدنيوية التى يحيا فيها مقابل وعود بدخول جنة لا يراها أو وعيد بدخول نار لا يقدر عليها، فهو متمسك بلحظته الحالية ويرغب فى أن تستمر الحياة حولها. ولأن كل من يمتلك مصدرا كبيرا للقوة والمال والنفوذ يسعى للخلود، فإن من يمتلكها فى عصرنا هذا هم شركات التكنولوجيا العملاقة التى أصبحت «إمبراطور» هذا العصر، فلم تكن استثناء من هذه القاعدة؛ تلك الرغبة الملحة فى تحقيق الحياة الأبدية، فأخذت على عاتقها مهمة «هزيمة الموت».
هذا تماما ما قاله «بيل ماريس»، رئيس «صندوق استثمار جوجل» Google Venture، حيث كشف خلال مقابلة فى يناير 2015 أن جوجل تستثمر 36% من صندوقها فى المشاريع الناشئة فى علوم الحياة، بما فى ذلك العديد من المشاريع الطموحة لتمديد الحياة، مضيفا أنه «فى الحرب ضد الموت، نحن لا نحاول كسب بضع ياردات، بل نحاول الفوز فى المباراة».
قد يكون الهدف نبيلا إذا استطاعت جوجل بالفعل أن «تؤخر الموت» أو حتى «تهزمه» كما يقول «ماريس»، لكن أليس بالأولى أن تعجل بذلك، وأن تسرع فى عملياتها وتحيى الموتى اليوم بدلا من الغد، خاصة إذا كانت تستطيع ذلك اليوم؟ نعم يمكن ذلك من خلال توجيه جزء من نسبة 36% من «صندوق استثمار جوجل» البالغ مليارى دولار إلى الدول الفقيرة التى يموت فيها الأطفال جوعا وفقرا قبل سن الخامسة بسبب مشكلات نقص وسوء التغذية، فى الوقت الذى يكثر فيه الموت فى الدول المتقدمة بسبب السمنة المفرطة، وأن تقدم لهم بهذا المبلغ نفسه الغذاء والدواء. أليس هذا أيضا «تأجيلا للموت؟»، أم أن الحق فى الحياة الأبدية أصبح ملكا حصريا للغرب فقط فى استمرار لمعايير الازدواجية التى تحكم النظام العالمى؟
• • •
بات حلم الخلود يراود الكثير من رواد وادى السيلكون مثل «ريموند كرزويل»، مدير الهندسة فى جوجل، صاحب نظرية حتمية اندماج الدماغ البشرى فى التكنولوجيا المتطورة، والذى لُقب بـ«الوريث الشرعى لتوماس إديسون»، و«العبقرى الذى لا يهدأ له بال»، و«آلة التفكير المطلقة»؛ نظرا لمسيرته الطويلة والناجحة فى مجال التكنولوجيا والمستقبليات.
فـ «ريموند كرزويل» أو كما يُطلق عليه «راى كرزويل»، ليس مخترعا عاديا، أو «عبقريا مجنونا»، بل يمتلك خطة تنفيذية لتحقيق الخلود عبر التكنولوجيا ونظم الذكاء الاصطناعى؛ فيتم زرع شرائح إلكترونية فى الأدمغة البشرية لتطوير «الإنسان الخارق»، أو أخذ نسخ احتياطية من أدمغة البشر ومعالجتها لكى تستمر فى التفاعل بعد موت صاحبها عبر زراعتها فى روبوتات معدنية، فتستمر الشخصية نفسها ولكن فى جسد آخر غير الجسد الفانى، ويصبح الدماغ داخل آلة لا تموت، كما يمكن تعديل الشفرات الوراثية للبشر لتوفير مناعة لا تهزمها الأمراض.
كل ذلك ممكن بالفعل، وقد تقدم التكنولوجيا فرصا واعدة أكثر من ذلك، لكن هل هذا حقا نوع من أنواع الخلود؟ فالشرائح الإلكترونية قد تطور «إنسانا خارقا» ذا قدرات ذهنية وبدنية عالية، لكن هل تتحمل طاقة الإنسان النفسية هذا الكم الرهيب من الذكريات والأفكار والنظريات والإدراكات المختلفة من دون أن يبدأ فى الانهيار؟ وما هى الحدود التى يمكن تحميلها على هذا الدماغ قبل أن يفكر فى التمرد أو الانتحار؟ وماذا يحدث إذا استطاعت مجموعة من البشر امتلاك هذه التقنية الثورية، هل سيتركون الباقى يتمتعون بالحق باقتنائها؟ أم سيتم حرمانهم منها بدواعٍ أخلاقية مزعومة كى يستأثروا منفردين بالسلطة؟
بل قد يكون السؤال، هل هذه هى الحياة الأبدية التى نرغب فيها حقا؟ أى بعد أن يموت الإنسان وينتهى ويتحلل وتخرج روحه إلى بارئها، تظل ذكرياته المبرمجة عبر جهاز كمبيوتر هى التى تحيا وتتفاعل مع الآخرين؟ بالطبع هذا ليس خلودا، بل تجربة على ذكريات إنسان قد انتهى ومات، لا يشعر بما تشعر به نسخته الافتراضية ولا يتأثر مثلما تتأثر، لن يحب مثلما تحب ولن يكره مثلما تكره، هذا ليس خلودا للإنسان بل خلود للذكريات.
• • •
إذا كُنت أختلف مع بعض هؤلاء المفكرين فى فكرة الخلود، إلا أننى أتفق معهم فى فكرة «تأجيل الموت»، أو إن أردت فقُل «تأجيل أسباب الموت». فالأسباب التى تؤدى إلى تسريع الموت تتمثل فى انتشار الأمراض والأوبئة والحروب والصراعات، وبالتالى إذا استطعنا أن نقضى عليها سوف نؤجل كثيرا من «أسباب الموت»، أى نقضى على هذه المُسرعات من خلال تعظيم الاستثمار فى البحث العلمى والطب، وترشيد السلوك البشرى، وإنشاء نظام عالمى متضامن قادر على التعامل مع الأوبئة والمجاعات بقدر كبير من الإنسانية، ويستطيع أن يتجنب ويلات الحروب ومصارع الموت.
• • •
قد يرى الفريق الآخر أن الأشخاص الساعين للخلود مخطئون فى ظنهم، لكن هناك جانبا إيجابيا آخر للقضية يجب على كلا الفريقين، الذى يؤمن بالخلود والذى يؤمن بالفناء، أن يهتم به ويسعى لتحقيقه؛ وهو السعى للحياة، فهو الهدف الأسمى والحق الذى تترتب عليه الحقوق الأخرى كافة، ولكن مع الإيمان بوجود الموت كحقيقة مطلقة يجب الاستعداد لها. فهدف الحياة الإنسانية فى الأديان السماوية جميعها هو الاستعداد للموت وللحساب ولدخول الجنة أو النار، وهى قيم تشكل ميزان التعامل البشرى، وإذا أغفلناها هلكت البشرية كلها وذهبت مسرعة إلى الموت لا محالة. فإذا أدرك القوى أنه لا يوجد رادع له فى الدنيا أو الآخرة، وأنه خالد ولن يموت، سوف يستمر فى تظلمه وجبروته حتى يُفنى الجميع بعضهم. وإذا لم يؤمن الجميع بوجود الموت، سوف يهلكون به.
فى النهاية، هناك توازن وسُنن تحكم هذا الكون، ومثلما تغيب الشمس فإنها تشرق من جديد، ومثلما يُولد إنسان يموت آخر، ومثلما يؤثر البشر فى الطبيعة فإنها تؤثر فيهم، وكما استطاع البشر بفضل التقدم العلمى والإدارة الجيدة، احتواء انتشار وباء كورونا، هم قادرون أيضا على إحياء ملايين الأنفس التى تموت يوميا بسبب أمراض تنتشر نتيجة لسوء التغذية أو سوء البنية التحتية أو عدم توافر الرعاية الصحية أو المياه النظيفة، وهى أولى بإحيائها، مثلما أولى بالتقدم العلمى أن يوفر آليات لتحسين صحة البشر ومستوى معيشتهم.
النص الأصلي