أدعو كل زميل صحفى مصرى أو عربى أن يسارع بمشاهدة الفيلم الأمريكى «ذا بوست»، وهو موجود الآن فى العديد من دور السينما المصرية.
الفيلم سياسى من نوع الدراما التاريخية، كما يمكن وصفه بالسيرة الذاتية، بدأ تصويره فى نيويورك مايو الماضى، وعرض لأول مرة فى «متحف النيوزيام» فى واشنطن فى ٢٤ ديسمبر الماضى، وفى ٢٢ يناير الماضى، تم عرضه رسميا فى كل دور السينما الأمريكية وبعض الدول الأخرى.
الفيلم بطولة النجمين القديرين ميريل ستريب وتوم هانكس، وإنتاج وإخراج ستيفين سبيلبيرج، وهم معارضون بارزون للرئيس دونالد ترامب، وربما يريدون من خلال الفيلم إلى تذكيره بانه سينهزم فى محاولاته لتكميم الافواه مثلما انهزم نيكسون عام 1971.
أكثر من زميل بالشروق كتب عن الفيلم، لكن لا بأس من الكتابة مجددا، خصوصا أن المعانى الواردة فيه ينبغى تذكرها طوال الوقت، من أجل وجود صحافة مهنية ومؤثرة ودافعة لبناء الأمم.
الفيلم يتحدث عن حصول صحيفة «النيويورك تايمز» على الأوراق السرية الخاصة للدراسة التى أجرتها وزارة الدفاع الأمريكية «البنتاجون» بشأن حربها فى فيتنام منذ بدءها وحتى عام ١٩٧١. الصحيفة تبدأ فى نشر هذه الأوراق المهمة جدا، وتكشف أن البيت الأبيض كان يكذب طوال اربعة فترات رئاسية بشأن مجريات الحرب، وأن الجيش لا يحرز أى تقدم فى فيتنام.
وفى أول يوم للنشر، يلجأ البيت الأبيض للحصول على قرار قضائى بوقف النشر باعتبار أنه يكشف وثائق سرية تضر بالأمن القومى، ويعرض سلامة الجنود للخطر، وتلك كانت المرة الأولى التى يتم فيها منع قصة خبرية من النشر فى تاريخ الصحافة الأمريكية.
صحيفة «الواشنطن بوست» التى كانت كاثرين جراهام مالكتها وناشرتها، ويرأس تحريرها بن برادلى، شعرت بالغيرة من نشر منافستها «النيويورك تايمز» للأوراق، وحاولت الحصول على الأوراق، وحصلت عليها بالفعل، لكنها واجهت السؤال الصعب:هل تنشر الأوراق السرية، وتتحدى حظر النشر، ام ترضخ للقرار القضائى الأولى؟
هنا تبدأ عقدة الفيلم؟!.
المستشارون القانونيون نصحوا ناشرة الصحيفة ورئيس تحريرها، بعدم النشر، لأنه أمر يتناول مسائل حساسة، تمس الأمن القومى، ويعرض الجنود للخطر أثناء دوران الحرب، إضافة إلى أن النشر قد يؤدى لوقف الصحيفة وخسارة العاملين فيها لوظائفهم، والزج بالناشرة ورئيس التحرير فى السجن.
روبرت ماكنمارا وزير الدفاع واحد المتورطين فى الفضيحة مع بقية المسئولين، كان صديقا حميما لكاثرين جراهام، حاول بكل الطرق منعها من النشر، وعندما قالت له إنها جاءت لتخبره بالنشر، وليس لكى تستأذن منه!!، جن جنونه، وبدأ فى تهديدها بأن الرئيس ريتشارد نيكسون سيسحقها ويسحق صحيفتها إذا قامت بالنشر!!!.
بعد تفكير وجدل ومناقشات معمقة، فإن كاثرين جراهام، انحازت إلى نشر الأوراق وأيدت موقف برادلى وقالت: «صحيح أن لدينا مسئولية تجاه الشركة والموظفين، لكن هناك أهمية أيضا للأخبار والنشر، والبحث عن مصلحة الأمة ومبادئ الإعلام الحر».
الواشنطن بوست نشرت الوثائق، وتم تحويل الأمر إلى القضاء، الذى أحال القضية إلى المحكمة العليا لكى تحسم الجدل.
المفاجأة المهمة أنه قبل صدور الحكم قامت غالبية الصحف الأمريكية بنشر الوثائق، وبالتالى لم تعد قضية صحفية واحدة متمردة، بل معركة بين البيت الأبيض، مع كل وسائل الإعلام، حول السؤال الجوهرى القديم والمتجدد وهو: ما هو العمل حينما يكون هناك تعارض متخيل بين حرية الإعلام والأمن القومى للبلاد؟.
المحكمة العليا انحازت لحرية الإعلام، وقالت فى حيثيات حكمها: «إن الآباء المؤسسين أعطوا الحرية الإعلامية الحماية التى لابد أن تحصل عليها، لتقوم بدورها الجوهرى فى حماية ديمقراطيتنا، وأن الإعلام دوره القيادة وليس أن يتم قيادته».
عند صدور الحكم هلل كل العاملين فى صالات تحرير الصحف الأمريكية فرحا،وفى المقابل ظهر شبح مسئول كبير فى البيت الأبيض يعطى تعليمات لأجهزة الأمن بعدم السماح بدخول أى محرر من الواشنطن بوست إلى البيت الأبيض انتقاما من الصحيفة، لكن وكما يعلم الجميع فإن الصحيفة تمكنت بعد فترة قليلة من تفجير فضيحة ووترجيت التى أطاحت بريتشارد نيكسون وأجبرته على الاستقالة بسبب تنصت إدارته على مقر الحزب الديمقراطى المنافس.
السؤال هو: هل الرسالة الرئيسية الواردة فى الفيلم قابلة للاستنساخ فى العالم العربى والثالث والنامى، أم انها خاصة فقط بالمجتمع الأمريكى؟!!. سؤال يحتاج لإجابة مفصلة.