نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب فادى سعيد دقناش، تحدث فيه عن دور الذكاء الاصطناعى فى تسهيل حياة الفرد، وإسعادهم (تقنية الهولوجرام، وتقنية الواقع الافتراضى، كمثالين)، كما تناول التحديات التى يفرضها الذكاء الاصطناعى على البشرية... نعرض من المقال ما يلى:
فى كتابه «الموجة الثالثة»، يعتبر عالم الاجتماع الأمريكى إلفن توفلر أن البشرية تعرضت لثلاث «غزوات» حضارية أدت إلى تغيرات جذرية فى بنية مجتمعاتها. هذه التغيرات هى كناية عن موجات «حضارية» بدأت بالزراعة (الموجة الأولى) التى تكسرت على أعتاب الثورة الصناعية (الموجة الثانية) وصولا إلى أكبرها حجما وتأثيرا ودفعا فى التاريخ البشرى، وهى ثورة الاتصال والتكنولوجيا (الموجة الثالثة).
صحيح أن الثورة التكنولوجية الأخيرة قد أحدثت انقلابات جذرية فى المجتمع، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، إضافة إلى تغييرات فى أنماط حياة الإنسان، لكنها حتما لن تكون الأخيرة على المستوى المعرفى، لأن الطبيعة البشرية لا تقبل الركود والجمود، وهى فى تطور مستمر، تستقبل معرفة جديدة وتودع أخرى أصبحت من الماضى، وهكذا دواليك...
الإنسان بطبعه يسعى لإشباع حاجاته وتحسين جودة حياته وتسهيلها. وهذا يحقق له نوعا من الرضا الداخلى ودرجات متفاوتة من السعادة. من هنا أهمية سعيه وحاجته الدائمة نحو التطور والابتكار، فـ«الحاجة أم الاختراع» كما يقول المثل الرائج. بالأمس كان التواصل يتمّ بواسطة الحمام الزاجل. أما اليوم فأصبح التواصل «ومضيا»؛ فتقنيات الجيل الخامس واقترانها بالذكاء الاصطناعى خرقت حاجز المكان والزمان لدرجة إمكانية استحضار أى إنسان افتراضيا، من أى زمان، ولأى مكان، ومحاكاته بالصوت، والصورة. وقد رأينا بالأمس القريب كيف استُحضر المطربان الراحلان عبد الحليم حافظ وأم كلثوم من عالمهما الآخر، وأحييا حفلة فنية اختصرت أعمالهما باستخدام تقنية «الهولوجرام» التى تسمح بإنشاء صورة ثلاثية الأبعاد باستخدام أشعة ليزر، لتطفو الصورة فى الهواء كمجسم هلامى فيه طيف من الألوان يتجسد على الشكل المراد عرضه.
كما تمكن الذكاء الاصطناعى بالسفر إلى ما قبل التاريخ من تفكيك الشيفرة الوراثية لبعض فراعنة مصر، ولكليوباترا، ولحضارات أخرى، وتجسيدها بالصورة بواسطة تطبيقات إلكترونية متطورة، وكأن هذه الشخصيات تعيش حية معنا. وهكذا تلاشى الزمان والمكان بماضيه وحاضره. أوليس بإمكاننا اليوم السّفر والسياحة فى أنحاء الأرض من داخل غرفتنا! نعم بالتأكيد هذا ما فعله ذاك الساحر الجديد «الذكاء الاصطناعى». فمع تقنيتى 5G والـ (VR Virtual Reality) سنتمكن من السفر إلى مدينتنا المفضلة، ومشاهدة مباراة كرة قدم مباشرة مع عيش التجربة نفسها تماما باستخدام المؤثرات الحسية التى تحاكى الإحساس، بالسمع والشم واللمس والتذوق والمشاهدة.
ولكن هل يعنى ذلك أن الإنسان قد تقدم نحو الأفضل؟ وهل قلص ثنائيات الصح - الخطأ، الخير- الشر، السلام - الحرب، السعادة - التعاسة؟، بعبارة أخرى: هل يسير بنا هذا التطور لمصلحتنا كبشر أم العكس؟ وهل يمكننا التسليم بما وصلت إليه العديد من الأبحاث الاجتماعية عندما ربطت جودة الحياة بسعادة الإنسان ورفاهه؟
• • •
هل تعدنا الثورة المعرفية الجديدة بتبديد قلقنا حول قضايا مستعصية كالحفاظ على الكوكب من الآثار المدمرة للمناخ، والاحترار الكوكبى، وفقدان التنوع الحيوى، والسيطرة على الأمراض، وترويض الطبيعة (زلازل وبراكين وأعاصير)، ومنع الحروب، وأخطار الدمار النووى، وخطر العزلة... بخاصة مع التسارع الكبير والسريع فى تطور التكنولوجيا التى يجزم فيها العديد من الاختصاصيين والعلماء بأننا سنكون فى منتصف هذا القرن أمام أنواع من البشر «عالية الذكاء، هجائن، معززة تكنولوجيا و«روبوتيا» وحاسوبيا لتحسين القوة أو البصر أو الذكاء أو لمنع بعض الأمراض أو لإحداث عواطف أو خصال معينة، إذا ما جرى التلاعب بهم وراثيا من خلال إقحام مقاطع من الحمض النووى.
من هنا ضرورة البحث عن معنى لماهية الإنسان ووجوده وأهدافه التى يمكن مقاربتها من خلال زوايا أربع، تتلخص وتتقاطع وتتماهى بمجملها مع «الأنسنة»:
التحدى الأول: خطر الهيمنة لمن يمتلك التقنية، وبالتالى سنكون أمام نتيجة حتمية بأن من سيحكم سيطرته على الذكاء الاصطناعى سيهيمن على العالم، ما يجعل قضية المساواة والعدالة بين الشعوب والدول مدار بحث وجدل، كذلك التفاوت فى توزيع الثروات ومستوى الدخل بين الفئات الاجتماعية، وأيضا بين الدول الفقيرة والغنية، ما يطرح إشكالية حق الحصول على هذه التقنيات وتوزيعها العادل بين الشعوب.
التحدى الثانى: خطر العزلة الجسدية والنفسية جراء التطور الحاصل، إحدى الميزات الرئيسة التى تميز البشر عن «الروبوتات» هى التواصل؛ فالبشر يتفوقون على الآلة بالقوة الناعمة وبالمهارات العاطفية التى تشمل المحبة والتعاون والتعاطف، وهم أيضا أسياد التقنية وليس العكس، وعدم استخدام أدمغتنا بشكل أدق بالاعتماد على أدوات الذكاء الاصطناعى يفقدنا القدرة على التفكير النقدى والكتابة، ويضعنا فى سجن من العزلة والاغتراب والاستسلام النفسى والجسدى لهذه الآلات.
التحدى الثالث: إشكالية الأمن الاجتماعى والاقتصادى، من خلال فقدان عدد كبير من الوظائف فى شتى الاختصاصات وفق ما يجمع عليه معظم العاملين فى مجال الذكاء الاصطناعى. ويبقى المستقبل وحده من يحمل الإجابات الشافية عن كيفية تعامل البشر مع هذا «الذكاء الاصطناعى» المبتكر من قبلهم.
التحدى الرابع: الوعى الجمعى لأهمية منظومة قيم مكارم الأخلاق التى جاءت بها الشرائع السماوية، وفلسفات الحكماء، والديانات الفلسفية الآسيوية (البوذية، البراهمانية، الكونفوشية...) منذ فجر التاريخ، من هنا ضرورة الاهتمام بالفلسفة والعلوم الإنسانية إلى جانب العلوم الوضعية التطبيقية. وهذا بدوره يتقاطع مع إشكالية الأخلاقيات والسلوكيات للثورة المعرفية المستجدة منها على سبيل المثال لا الحصر: استنساخ البشر، انتهاك خصوصية الأفراد، التى تتقاطع معها إشكاليات حماية الأمن الإلكترونى الشخصى من خلال الحاجة إلى حماية الحسابات الشخصية من الهجمات الإلكترونية (السطو الإلكترونى، الحروب السيبرانية، القرصنة، الاختراقات، نشر الأخبار المضللة والزائفة والتأثير على آراء الناخبين والناخبات...). وفى هذا السياق تثير حاليا التطبيقات الإلكترونية الذكية AI جدلا أخلاقيا واسعا فى الوسط الثقافى، كونها تستطيع حل أى مسألة والإجابة عنها، ناهينا عن إنجاز أبحاث الطلاب بسهولة وسرعة غير معهودة من دون أى جهد إبداعى أو ابتكارى منهم.
• • •
إن تحديات اليوم تختلف عن تحديات الأمس، لأنها تحديات متسارعة ومتشابكة ومتنوعة: أخلاقية، اقتصادية، اجتماعية، سياسية، ثقافية محورها الإنسان، وفلسفة وجوده ومعناه. ولعل الخطر الكبير الذى نعيشه اليوم يكمن فى كيفية تركيب المصطلحات وفهمها. فالقنبلة (الشريرة) أصبحت قنبلة ذكية، والمسيرة (الأنيقة) التى تصور جمال الطبيعة من السماء غدت مسيرة (خبيثة - غدارة) تنتهك الخصوصيات وتحمل حشوات صاروخية ذكية بهدف القتل وسفك الدماء، والجيش النظامى أصبح جيشا إلكترونيا افتراضيا تجسسيا أو «ذبابا إلكترونيا» يتم من خلاله تسويق العنف المعنوى والأفكار غير الإنسانية أو غير السوية. وهنا تتقابل الثنائيات وتتواءم، فنكون أمام تشويش بين مصطلحات الخير والشر وخلط فى فهم القيم الإنسانية.
ويبقى الهاجس الأخلاقى والاستخدام الأمثل للتقنية يشكلان التحدى الأكبر للبشر فى المستقبل القريب؛ لذلك فإن النخب المجتمعية المؤثرة والفاعلة فى الدول كافة مطالبة بالسعى لتطوير إطار أخلاقى جامع يهدف إلى مواءمة منتجات الذكاء الاصطناعى مع المعايير الأخلاقية السامية من أجل صون كرامة البشر وتقدمهم الأخلاقى والحضارى والاستفادة من هذا التطور «الومضى» واستثماره فى تحسين جودة حياة الإنسان وسعادته.
النص الأصلى:
https://rb.gy/5ds1si