لو أمعنا النظر فى ظاهرة إصرار المجتمعات العربية على الالتصاق الشديد بتراثها فإننا سنصاب بالحيرة.
ففى كثير من الحالات تختار تلك المجتمعات ذلك التراث الذى فرضه الاستبداد السياسى، عبر التاريخ العربى الإسلامى، من أجل مصالح سلطات الحكم ومن أجل تطويع قوى المجتمعات، وبمباركة فى أغلب الأحيان من قبل السلطة الدينية الرسمية. لكأن مجتمعاتنا توافق على أن يكون تاريخنا وبالتالى تراثنا، ما رسمته ورعته سلطات السياسة الرسمية وسلطات الدين الرسمية.
يصدق ذلك على تراثنا الفكرى والفقهى والسياسى والثقافى، ويمثل فصلا حزينا فى التعامل مع تراث تميز فى بعض منعطفاته بألق الإبداع والتميز الإنسانى.
دعنا نأخذ، على سبيل المثال، تراثنا التربوى، سواء فى منطلقاته النظرية أو أهدافه التربوية أو ممارساته التعليمية، لنرى كم أن الحاضر التربوى العربى لم يستفد من منجزات الماضى الإيجابية الحميدة.
بعد الاحتكاك والتفاعل مع فكر وعلوم الحضارات الفارسية والهندية واليونانية طرحت مدرسة العقل، أى استعمال وتحكيم العقل فى أمور الدين والدنيا، طرحت نفسها بقوة من خلال مجموعة كبيرة من الكتاب والفقهاء والفلاسفة، وذلك فى مواجهة مدرسة النقل المكتفية باجترار نصوص وخطاب التراث الماضى دون تمحيص ولا طرح أسئلة ولا محاولة تجديد.
•••
تاريخ صعود تلك المدرسة العقلية وتألُقها فى عصر المأمون، وخصوصا مدرسة المعتزلة الشهيرة، وتاريخ تراجعها التدريجى من خلال بطش السياسة بعد ذلك معروف. لكن ما يهمنا أن تلك المدرسة أنتجت ثقافة عقلانية وفكرا تربويا تميزا بالغنى والحيوية، وقدما خيارا فكريا وثقافيا قابلا للاستفادة منه فى كل العصور.
فى الجانب الثقافى الفكرى أسسوا لمنهج الشك والابتعاد عن مسلمات التقليد، وأعطوا أهمية لطرح الأسئلة لتعريف المفاهيم ولتصنيف الأفكار، وفرقوا بين المعرفة التى حصروها فى المعانى الجزئية وبين العلم الذى يتعامل مع المعقولات والكليات، وأعطوا مكانة لمعرفة أسباب وعلل الظواهر الإنسانية، وأفسحوا مكانا للتجريب للوصول إلى الحقائق العلمية، ومجدوا أهمية التنوع والاختلاف والنظر إلى الأمور من زوايا مختلفة، إذ يجد الإنسان قمة ذلك التوجه فى قول شهير قاله أبو حيان التوحيدى: إنى لأعجب من ناس يقولون كان ينبغى أن يكون الناس على رأى واحد ومنهاج واحد، وهذا ما لا يستقيم ولا يقع به نظام».
ما كان لتلك الثقافة الفكرية العقلانية إلا أن تقود إلى فكر تربوى عقلانى جديد فى مواجهة فكر تربوى تلقينى كان يسود تلك المجتمعات من أبرز تلك الأفكار التربوية:
• إعلاء وظيفة المدرسة التربوية، التى تعنى بالنمو والسمو فى الحياة الإنسانية من خلال تنمية قدرات الفرد العقلية والنفسية وتجعله فردا مستقلا فى جماعة، على وظيفة المدرسة التأديبية التى تقمع شخصية الفرد وتصوغ عقله ومشاعرة وسلوكه حسب إملاءات مؤسسات السيطرة والكبار فى المجتمع.
• نفى التعارض بين الحكمة والفلسفة من جهة وبين الدين من جهة أخرى، والتى لخصها الفيلسوف الكندى فى قوله بأن «صدق المعارف الدينية يعرف بالمقاييس العقلية».
• نادوا بأهمية تثقيف العامة والانفتاح على علوم وثقافات الآخرين وبالتسامح الفكرى وبضرورة الاختلافات فى الفكر والمعتقدات.
• أبرزوا الأهمية القصوى للوظيفة الاجتماعية للتربية كمدخل لإصلاح الاجتماع الإنسانى وتحكيم العقل فى مسار شئونه. ومن هنا رفضوا المقولات التى كانت تحصر العلوم بعلوم الدين فقط بل ربطوا العلوم بتهيئة الناس للمهن والصنائع والمعيشة اليومية عندما ربط أبن خلدون التربية بالعمران والاجتماع البشرى وبإصلاح السياسة.
• لقد طرح ابن خلدون فكرة «إثبات ملكة العلم فى نفوس المتعلمين»، أى حب العلم لذاته والقدرة على التعلم مدى الحياة. ومن هنا رفض ابن خلدون قسوة التعامل مع الأطفال التى تقود إلى انحرافهم السلوكى، ورفض حشو عقول المتعلمين بالمعلومات التى لا نفع منها، وشدد على أهمية التدرج فى التعليم والأخذ بعين الاعتبار قدرات الطالب.
تلك أمثلة منتقاة من تراث تربوى هائل فصله المرحوم الدكتور محمد جواد رضا فى كتابه «العرب والتربية والحضارة».
•••
نعود فنطرح السؤال مرة أخرى:
لماذا لم يستفد الحقل التربوى العربى من ذلك التراث الثقافى والتربوى المبهر، والذى يتلاءم كليا مع أفضل التوجهات التربوية الحديثة، لينتج مدرسة تخُرج بشرا عقلانيين، قادرين على طرح الأسئلة، ملتزمين بقضايا مجتمعاتهم العادلة، مستعملين وسيلة الشك للوصول إلى اليقين، قادرين على التعلم الذاتى، متسامحين مع الآخرين المختلفين ؟
والجواب هو أن سلطات السياسة والفقه المتزمت الخادم للسلاطين قد فرضا عبر العصور مدرسة التلقين والتقليد وتقديس الماضى. ومع الأسف فان حقل التربية العربى الحديث لم يرد أن يتعب نفسه ويختار مدرسة المفكرين والمجددين بدلا من المدرسة المفروضة من قبل سلطة الخلافة وغريمتها سلطة الفقه المتخلف الخائف من أنوار العقل.
لو انطلقت التربية العربية الحديثة من التراث الفكرى التربوى العقلانى الإنسانى ذلك، وأضافت إليه منجزات العصر التربوية لكانت المدرسة العربية والجامعة العربية اليوم بألف خير.