كنت إذا حللت ضيفا على أى برنامج فضائى ألتقى عددا من المتخصصين فى المجال الذى أدعى للتعليق عليه بصفتى باحثا اقتصاديا. كانت صدمتى كبيرة حينما أجد المسئول عن أسعار منتجات الوقود مثلا يحدثنى عن ضرورة تمرير أى زيادة فى أسعار النفط العالمية مباشرة وفورا إلى المستهلك، كنت على يقين من أن إدارة ما فى وزارة البترول وبالتحديد فى الهيئة العامة للبترول معنية بشراء عدد من عقود المشتقات التى تعمل على التحوط ضد تقلبات الأسعار، ومن ثم لو ارتفع سعر برميل النفط مثلا من 60 دولارا فى بورصة نايمكس إلى 80 دولارا فإن أسعار البنزين فى مصر لا ترتفع بنفس النسبة وعلى الفور، لأن عقدا للمشتقات يمكن أن يضمن لنا ألا نشترى النفط طوال العام (أو لفترة أطول) بأعلى من 60 دولارا وذلك مقابل ثمن معقول لهذا العقد.
التنبؤ بتقلبات أسعار المنتجات البترولية ومشتقات النفط كشف عن حاجة ملحة لإدارة المخاطر السوقية المرتبطة بهذا النوع من المنتجات، ومن المعلوم أن الحكومة قد لجأت ــ حديثا وبعد نداءات متخصصة كثيرة ــ إلى شراء عقود المشتقات البترولية للتحوط ضد تقلبات أسعار النفط خشية ارتفاع السعر عن 67 دولارا للبرميل. ولما كنا نتوقع أن هذا قد تم بالتأكيد عبر شراء عقود الخيارات options وليس العقود المستقبلية النمطية مثل الـ futures أو غير النمطية مثل الـ forwards وذلك حتى تمتلك الدولة «الحق» وليس «الالتزام» للشراء أو البيع عند أسعار محددة. فإن التراجع الشديد فى أسعار النفط إلى ما يقرب من ثلث السعر الذى تمتلك مصر «حق» الشراء به، فإن شراء جميع احتياجات الدولة من النفط عند السعر الجديد هو أمر منطقى حتى لو خسرنا الهامش الصغير premium الذى دفعناه طائعين لشراء تلك الخيارات.. تلك العقود أشبه ببوليصة التأمين التى لا تستخدمها إلا عند الضرورة وفى حالة لم تتحقق توقعاتك السيئة فإنك لا تغضب من خسارة «ثمن» البوليصة وكذلك ثمن عقد الخيارات الذى هو كسور من قيمة المنتج الأصلى (برميل النفط فى هذه الحال). إذن فلو أن الدولة وفرت احتياجاتها من النفط والغاز الطبيعى بالأسعار الجديدة المتاحة فى أسواق السلع سواء من السوق الحالية spot market أو عبر تعاقدات طويلة الأجل مستفيدة من تراجع الأسعار إلى مستويات تاريخية لم تبلغها منذ نحو عشرين عاما، فإننا نتوقع أن ينعكس ذلك فورا على أسعار الطاقة التى تستخدمها الصناعات كثيفة الاستهلاك، بل وعلى سائر المستهلكين. فمنذ بدء تطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادى فى نوفمبر 2016 فإن وزارة البترول قد تبنت آلية تلقائية لتسعير الوقود (تناولناها بالتحليل فى مقال سابق)، وتلك الآلية تقتضى تراجع الأسعار للمستهلك بنفس نسبة تراجع الأسعار فى البورصات العالمية.
***
ولأن الغاز الطبيعى (وهو أحد أهم المشتقات البترولية) هو مصدر الوقود الأهم لتشغيل محطات الكهرباء على مستوى الجمهورية، وهو أيضا مصدر الوقود بل ومدخل الإنتاج فى عدد من الصناعات كثيفة استهلاك الطاقة، فإن تراجع أسعاره عالميا على خلفية أزمة كورونا يحتم تخفيضه للمستهلكين فى المدى القصير (وهو المدى الأهم لإدارة أية أزمة) بنفس النسبة على أقل تقدير. وعليه فإننا نطالب بتخفيض أسعار الغاز المستخدم لتوليد الكهرباء إلى ثلث سعره الحالى وبالتالى تخفيض أسعار الكهرباء خاصة للجهد الفائق والعالى (الشرائح التى لا تحصل على أى دعم بل تدفع ما يعرف بالدعم التبادلى للمساكن) إلى ثلث ما هى عليه الآن أو فى القليل إلى سعر التكلفة (72 قرشا للجهد الفائق) مع عدم سداد أى تكاليف إضافية لساعات الذروة خاصة وأن الاستهلاك الصناعى هو الذى يحافظ على استقرار الشبكات. كذلك لابد من تخفيض أسعار الغاز الطبيعى لصناعات الصلب والأسمدة والسيراميك..إلى ثلث ما هى عليه اليوم.
ومن المعلوم أن أى التزام تعاقدى مع الشريك الأجنبى فى إنتاج الغاز الطبيعى يمكن التحوط ضده عبر نقل المخاطر إلى طرف ثالث وليكن مُصدر عقود الخيارات options writer وبالتأكيد عدم الالتزام بسداد قيمة حصة مصر بسعر أعلى من السعر السائد فى البورصات العالمية وإلا يكون الشراء من السوق الآنية أجدى فورا.
حسنا فعلت الحكومة المصرية فى استجابتها لصدمات أزمة كورونا على نحو يعكس المسئولية والإدراك لطبيعة تحديات الجائحة الصحية والاقتصادية. قرارات تنظيم النشاط الاقتصادى، وخفض أسعار الطاقة (الذى نطمح فى المزيد منه)، وتأجيل التحصيل الضريبى وتخفيض أسعار بعض أنواع الضرائب.. إلى غير ذلك من قرارات جاءت جميعها لتدلل على أداء حكومى أكثر اتساقا من أداء مؤسسات أخرى ومنها البنك المركزى. فالأخير اتخذ قرارات رائعة لتحفيز الاقتصاد الحقيقى، أثنينا عليه غير مرة فى معرض تعقيبنا على أداء الرقيب المالى غير المصرفى. من تلك القرارات إسقاط بعض الفوائد، وإعادة هيكلة المديونيات، وتقديم قروض ميسرة للمشروعات الصغيرة والمتوسطة... إلى غير ذلك من مبادرات. لكن قرارا واحدا شذ عن هذا السياق، حينما أقدم البنك المركزى المصرى فجأة على خفض أسعار الفائدة المدينة والدائنة بمقدار 300 نقطة أساس دفعة واحدة! التوقيت وحجم التخفيض أثارا حيرتى، حتى البورصة المصرية الجريحة والتى من المفترض أن تكون بمثابة آلية للتصويت السريع على قرارات تحفيز الاستثمار غير المباشر استجابت بصورة عكسية للقرار فى اليوم التالى مباشرة. ثم اتخذت البنوك الكبرى وفى مقدمتها بنكا الأهلى ومصر قرارات حكيمة بتثبيت أسعار الفائدة المدينة وفى اليوم التالى اتخذا قرارا بإصدار شهادات استثمار ذات عائد استثنائى بلغ 15%. كان ذلك التصرف بمثابة السير فى الاتجاه العكسى لقرار المركزى!
***
شخصيا لم أشهد سياسة نقدية انكماشية وتوسعية فى نفس الوقت! من الجائز أن تكون السياسة النقدية انكماشية والسياسة المالية تتبنى نهجا توسعيا لإحداث نوع من التوازن. لكن استخدام البنك المركزى لسعر الفائدة بهدف التحكم فى السيولة يجب أن تسير فى اتجاه واحد.. فإن خشى صانع السياسة النقدية من تفضيل السيولة أو الدولرة فإن تخفيض ٣٠٠ نقطة أساس من أسعار الفائدة يشكل مخاطرة كبيرة حتى لو أن تلك الإشارة تستهدف سعر الفائدة للإقراض بهدف تحفيز الاقتصاد الحقيقى، فإن مسألة تضييق الهامش بين سعرى الإيداع والإقراض تكون ممكنة وجائزة، بل ونادينا بها كثيرا على أن يتم ذلك من خلال الكوريدور وليس عبر التباين الملفت بين قرارات المركزى وقرارات البنوك الكبرى!. قرار المركزى جاء بعد ساعات من قرار غير موفق للفيدرالى الأمريكى بتخفيض الفائدة إلى ما يقرب من الصفر، مؤشرات البورصات الأمريكية (الأكثر مرونة وكفاءة) صوتت بالرفض لهذا القرار الذى كان من الممكن أن يؤتى أكله فى وقت سابق أو لاحق من الأزمة، فالقرارات التى تتخذ فى عين العاصفة لا يمكن توقع دوال الاستجابة لها مهما كانت قوة الصدمات التى تأتى بها (وهذه لغة يفهمها الإحصائيون وأهل النماذج القياسية). وكما قال الدكتور محمد العريان معقبا على قرار الفيدرالى الذى وصف أصحابه بعدم الخبرة فى إدارة الأزمات: «إنك لو صببت النقود صبا فى جيوب الناس فما هى مصارفها بعد توقف النشاط الاقتصادي؟!».
مهم أن تكون سيناريوهات إدارة المخاطر وإدارة الأزمات مبنية على فهم لطبيعة الاستجابة للقرار الاقتصادى باختلاف الأفراد المخاطبين بالقرار، واختلاف الظرف الاقتصادى، واختلاف العوامل والظروف المحيطة. فالعالم يجب أن يعمل بجد على التنبؤ بشكله الجديد فيما بعد مرور الأزمة. وعلى بنوك الأفكار فى مصر أن تبحث لبلادنا عن مكان فى العالم الجديد وبسرعة. حفظ الله مصر وسائر البلاد.