(1)
منذ كنت طالبا فى الجامعة، كان الاحتفال بأى مناسبة دينية مسيحية، يعنى قضاء وقتٍ ممتع بصحبة كتاب جديد أو معاودة قراءة كتاب قديم عن تاريخ «المسيحية» وسيرة «السيد المسيح»؛ والأثر الذى أحدثته رسالته فى التاريخ والمجتمعات الإنسانية، وفى الآداب والفنون، وفى كل شىء.
قبلها كانت كل صلتى أو معرفتى بها لا تتجاوز بعض المشاهد التى تتردد فيها كلمة السيد المسيح والمسيحية فى فيلم «الناصر صلاح الدين الأيوبى»!!
أما «النكتة» فإننى وأنا صغير كنت أتخيل أن الاحتفال بعيد القيامة الذى يحل فى النصف الثانى من شهر أبريل أو أول مايو من كل عام يعنى الاحتفال بيوم القيامة الذى لم يقمْ حتى الآن!
إلى هذه الدرجة كانت سذاجة التصورات وبُعدها عن الواقع، والحقيقة أن السبب لم يكن لغباء شخصى أو بلاهة ذاتية، وإنما لغياب المعرفة (أو تعمد تغييبها)، وطمس فكرة وجود آخر من الأساس، نسمع عن احتفالات ومناسبات تخص مصريين مثلنا لكنهم مسيحيون (ونحن مسلمون)، فلا نعرف عن أى شىء يحتفلون وكأن هذه الأمور «أسرار» ينبغى عدم التعرض لها أو الاقتراب منها! شىء غريب!
وعندما كنت أسأل مدرسا فى المدرسة وأنا فى ابتدائى، كان ينظر لى ببلاهة، ويستحى أن يقول لى «لا أعرف»، لكنه فقط يحمِر لى فى عينيه، ويقول بلهجة محذرة صارمة «ما لكش دعوة بالكلام ده.. إنت مالك ومال السؤال عن عيد المسيحيين؟!».
(2)
خابت صرامة الأستاذ، وضاع إنذاره وتحذيره فى الهواء، فما حدث هو العكس، فقد تنامى بداخلى شغف حقيقى فى القراءة عن الفترات الباكرة من تاريخ الأديان، وشخصياتها الكبرى ومراحل تطورها، وخاصة الفترات الأولى من تاريخ المسيحية، وحياة السيد المسيح عليه السلام، لكننى وقتها (فى المرحلة الإعدادية يمكن!) لم أكن أعلم على وجه الدقة ما الذى أقرأه وكيف والأصعب من أين آتى به.
بالمصادفة، وأنا أقلب فى مكتبة المدرسة (ربما كانت آخر مكتبة مدرسية على قيد الحياة فى ذلك الوقت) عثرت على كتابٍ لطيف اسمه «قصة الديانات» لسليمان مظهر، كان أول كتاب أقرأ فيه شيئا عن سيرة السيد المسيح، قرأت فيه الفصول الكاملة التى خصصها عن المسيحية وتاريخها كاملة ودفعة واحدة.
كنت أشعر بمتعة حقيقة وأنا أتعرف على تفاصيل مدهشة ومثيرة، وأنا أتعرف على فصل عظيم من فصول البشرية على وجه هذه الأرض، كم أعدت بشغف قراءة الفصل الأخير فى حياة السيد المسيح منذ دخوله إلى أورشليم، فى أحد الشعانين، ثم أربعاء أيوب، وخميس العهد، والجمعة العظيمة، وسبت النور، وأخيرا قام.
(3)
وقادنى هذا الكتاب اللطيف إلى كتبٍ أخرى عديدة ومهمة عن تاريخ المسيحية وحياة السيد المسيح، كان من أهمها وأجملها فى ظنى كتاب «عبقرية المسيح» للعقاد؛ الذى كان من الكتب التى استرعت انتباهى وشدتنى لقراءتها. كتاب جميل تظلله روح إنسانية شفافة، وتقدير عظيم لشخصية السيد المسيح عليه السلام.
يقول العقاد «إن دعوات النبوة للرسل المبعوثة من الله للبشر هى «ظواهر إلهية» كبرى تُغير الإنسانية، ومن أعظم هذه الظواهر هى رسالة السيد المسيح، فكان الميلاد ذاته معجزة، ثم أجرى الله معجزات أخرى على يديه فى مجتمعاتٍ كانت غارقة فى المادية البحتة».
ويعرض العقاد حال مجتمع بنى إسرائيل وأطيافه، وما أصاب اليهودية مِن تفرُق لأتباعها، كما يصف ما ساد مجتمعَهم من ظروفٍ سياسية واجتماعية سبقت ميلاد المسيح، ويحكى قصة الميلاد المُعجز، ثم دعوته التى كانت تقوم على الحب طمعا فى الظفر بملكوت السماء، فتبعه التلاميذ المخلصون (الحواريون) يتعلمون حكمته فى إخلاص، لينتشروا فى ربوع الأرض يدعون الناس لدينٍ قوامه حب البشر بعضهم البعض، فطوبى لأنقياء القلب.
(4)
وإذ تذكر حوادث التاريخ أنه قبل ميلاد السيد المسيح، ظهرت جماعةٌ يهودية متطهرة دعت إلى التقشف والحب والرحمة والزهد، لكنها لم تلاقِ أى صدى، ولم تترك أثرا يذكر لا بين اليهود ولا غيرهم. فلما ظهر السيد المسيح تغير كل شىء، توقدت الشعلة فى القلوب، واستيقظت الضمائر، وارتفعت الهمم، وصار هناك من يضحى بروحه راضيا من أجل الخير والحق والجمال (فى اعتقاد من يرى ذلك أو لا يراه سيان).. تقوضت أركان عالم قديم، ونهض مكانها شامخا عالم جديد.
صار «عبقرية المسيح» من الكتب التى أحبها وأعاود مطالعتها بشغف، وفيه يقول العقاد «إن السيد المسيح هو الذى أحيا مملكة الضمير فى النفس الإنسانية».. وما أجمل التعبير، وأصدق القول، وأعمق الدلالة.
تجاوزتْ (أو هكذا أظن!)، إذن، فكرةُ الاحتفال بالمناسبة الدينية عندى مجرد مشاركة أصدقائى المسيحيين التهنئة وتبادل عبارات المعايدة؛ هذا رائع وجميل وندعو له دائما، لكن الأجمل أن يكون هناك رغبة مخلصة فى تنمية معرفة حقيقية، متسامحة، بكل «ما/ من» خرج عن دائرة اعتقادك الشخصى، وأن تسعى لفهم مكون أساسى وأصيل من تاريخ البشرية (ليس فى ما يخص المسيحية وحدها بل كل الأديان والمعتقدات)، وأن تكون قادرا على استيعاب الاختلافات بين البشر؛ خاصة فى مجال الاعتقاد والإيمان الشخصى.
الفكرة على بساطتها المتناهية، كان غيابها كارثيا ومروعا وسخيفا، وما زالت تداعيات غيابها تلقى بظلالها الثقيلة على أجيال وأجيال حتى الآن.
(5)
أعتبر أن مشاركتى لكل أصدقائى المسيحيين احتفالهم بالأعياد، لا تقتصر على تهنئتهم فقط بـ«كل سنة وأنتم طيبون وبخير»، ولكنها تعنى أيضا المزيد من القراءة والفهم والتعرف على مكون رئيسى من مكونات الوطن والهوية والحضارة المصرية.. كل سنة ونحن جميعا طيبون وبخير.. والبشرية كلها بسلام وأمان ومودة..
فى عيد القيامة، تحية وسلاما لمن أحيا مملكة الضمير فى هذا العالم.