عام وراء عام، وكلما جاءت ذكرى ثورة 23 يوليو، يرتدى البعض ثوب الواعظين المحيطين بتاريخ الثورات فى العصر الحديث، متهما «الثورة" بتعطيل عجلة التاريخ ضد الطبقات الراقية المنعَّمة بالعلم والثقافة، ولصالح أبناء الفلاحين والمعدمين من أبناء الشعب المصرى، ويمتشق البعض الآخر حسام النقد والتجريح فيما جرى من مدبر الأيام التى شهدت أكبر حدث عاشته مصر فى القرن العشرين.
فهذا يعتبر الثورة أكبر نكسة، بعد أن ضربت ديمقراطية النصف فى المائة فى مقتل، وذاك يتباكى على الأسرة العلوية التى كانت «تحنو» أيادى أميراتها المدللات على فقراء المحروسة، وكيف يذهبن إلى المبرات والجمعيات الخيرية، وهن يرفلن فى ثياب صنعت على أحدث خطوط الموضة، بحثا عن مريض أو محتاج لمواساته، فكثرت الجمعيات والمستشفيات التى يقترن اسمها بكلمة «المواساة»!!
وفى المقابل ينبرى ما تبقى من أبناء يوليو المخلصين للدفاع عن أهم ثورة مصرية بالمعنى الحقيقى للثورة، إذا كنا منصفين، بحجم ما أحدثته من تغيير على أوسع نطاق، أتاح أكبر حراك اجتماعى وسط الطبقات والشرائح الأدنى لصالح الترقى فى سلم الأحلام الفردى والجماعى على قاعدة المساواة فى الحقوق والواجبات، وشهدنا كيف صعد أبناء «الجناينى»، الذين يُعيرهم بعض ضعافى النفوس وفاقدى الموضوعية هذه الأيام، إلى قمة الوظائف العامة متسلحين بتعليم حقيقى مجانى، أتاح لمصر اكتشاف أصحاب أذكى العقول والمواهب فى مختلف المجالات.
اختارت ثورة يوليو 1952 منذ بواكير أيامها الانحياز إلى السواد الأعظم من المصريين، وخاضت معارك بحجم تطلعات «ثوارها» فى العدل والحرية والكرامة الإنسانية، أخطأت وأصابت، نجحت وفشلت، انتصرت وانكسرت، غير أن الهدف الذى يحاربه أعداؤها حتى اليوم، هو قدرة المصريين على التحدى، وصناعة المستحيل فى أصعب الظروف.
يهاجم البعض ثورة يوليو، وزعيمها جمال عبدالناصر، لأنه أنصف الفلاح، وكرَّم العامل، وأتاح للمريض علاجا يحفظ كرامته، متذرعين بكلمات جوفاء عن الديمقراطية، والقضاء على حقبة ليبرالية مزعومة، متناسين أن الحرية قرينة تدبير لقمة العيش، فالجائع الفقير لا يفكر، والجاهل لا تعنيه سفسطة المثقفين عن جنس الكائنات الفضائية، والمريض جل ما يحلم به الشفاء من علته.
الكلام السابق لا يعنى معاداة للديمقراطية، أو تشجيعا على تقليص مساحة الحريات العامة والمشاركة السياسية على أسس من التعددية، بقدر ما هو دعوة لفهم وتفهم حقبة سياسية كانت حافلة بالمعارك، وبالتالى عرضة لارتكاب الأخطاء أيضا، وألا نضع نظارات سوداء لا ترى إلا ما يريد البعض أن يراه من خلفها، متجاهلا أن ما أنجزته ثورة 23 يوليو يضاف إلى نهر الحياة المصرية المتدفق عبر الحقب المتوالية، فقد ذهب الثوار وبقى ما صنعه الشعب المصرى.
تحتاج ثورة يوليو من المنصفين، وهم قلة للأسف، تقويما موضوعيا، يجنِّب العقل الجمعى المصرى التأثيرات السلبية لنقار الديكة الذى ينشب كلما حلت ذكرى 23 يوليو، أو جاء ذكر جمال عبدالناصر، فيما الثورة التى بدأت أحداثها قبل 66 عاما جزء لا يتجزء من نسيج التاريخ المصرى الذى يجب أن نحترمه بحلوه ومره، وألا يظن البعض أن إهالة التراب على حدث كبير بهذا الحجم يمكن أن يصنع مستقبلا.
لا شك أننا من وقت لآخر نحتاج، إن لم يكن مطلوبا، إعادة النظر فى تقييم نجاحاتنا وإخفاقاتنا فى مسيرتنا الإنسانية، وأن نراجع مواقفنا، المرحب منها أو المعادى، لهذه الحقبة التاريخية أو تلك، ومن هذا القائد، أو ذاك، واضعين فى الاعتبار أننا جميعا نسبح فى النهر ذاته الذى سيظل يجرى فى الربوع المصرية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.