شهد مفهوم الحرب الخاطفة ذروة تطبيقه عندما تمكنت الجيوش الألمانية فى الأيام الأولى من الحرب العالمية الثانية من اجتياح بولندا والسيطرة عليها خلال شهر واحد، ثم اجتياح النرويج والسيطرة عليها خلال شهرين، ثم الانتصار الباهر للجيوش الألمانية فى غزو والاستيلاء على بلجيكا وهولندا وفرنسا فى فترة لم تتجاوز 45 يوما.. لذلك فالتساؤل الذى يطرح نفسه اليوم هو لماذا لم تنتهج روسيا استراتيجية الحرب الخاطفة فى أوكرانيا؟
فى بداية الحرب الأوكرانية انتهج الجيش الروسى استراتيجية تقليدية بالهجوم البطىء الحذر على أربعة محاور أهمها محور العاصمة كييف، لكن حجم القوات الروسية ــ عـــــددا وعتادا ــ لم يكن كافيًا لتحقيق النجاح لتلك الخطة التى بنيت على تقديرات وتحليلات روسية غير سليمة؛ حيث أغفلت حسابات القادة الروس أن أوكرانيا كانت طوال السنوات الماضية منخرطة فى تعاون عسكرى سرى مع الولايات المتحدة ودول حلف الناتو، الأمر الذى أحدث تطورا ملموسا فى قدراتها العسكرية.
فى ميدان القتال تبين تدهور مستوى عمليات الإمداد بالذخائر والمهمات وضعف التنسيق والاتصال بين تشكيلات القوات الروسية، ومع تفاقم المشكلات اللوجيستية ومحدودية عدد القوات الروسية المهاجمة مقارنة بأعداد القوات الأوكرانية المدافعة وكميات ونوعيات السلاح المنقول إليها بكثافة من حلف الناتو، تمكنت أوكرانيا من الصمود والمقاومة وكبدت القوات الروسية خسائر جسيمة فى الأرواح والعتاد، وتم على أثر ذلك استبدال وتنحية عدد من القادة العسكريين الروس.
•••
العديد من القادة وأساتذة الأكاديميات العسكرية فى العالم أشاروا إلى أنه كان من الأفضل لروسيا انتهاج استراتيجية الحرب الخاطفة لإنجاز وتحقيق أهدافها فى أوكرانيا؛ لأن الولايات المتحدة ودول حلف الناتو كانت قد اتخذت خطا ثابتا منذ اليوم الأول للحرب بمنع روسيا من تحقيق أى انتصار فى أوكرانيا، فتدفقت وما زالت تتدفق على أوكرانيا إمدادات عسكرية ضخمة من مختلف أنواع الأسلحة، والمساعدات الاستخبارية والاستطلاع والمعلومات والتخطيط والتدريب.
وهكذا بات الوضع بالنسبة لروسيا شديد التعقيد، لأن الولايات المتحدة ودول حلف الناتو باتت تعمل بكل السبل على تحقيق أكبر قدر من الضرر والاستنزاف للقدرات الاقتصادية والعسكرية الروسية، وساعدها على ذلك استراتيجية الحرب التقليدية التى انتهجتها روسيا بدلا من استراتيجية الحرب الخاطفة.
على العكس نفذت القوات الأوكرانية للمرة الأولى تكتيك الحرب الخاطفة والهجوم المضاد عندما كانت أجزاء كبيرة من شرق أوكرانيا وجنوبها تحت السيطرة الروسية، ومنها مدينة خاركيف، ثانى أكبر مدينة فى أوكرانيا بأهميتها الاقتصادية والصناعية، وموقعها الحاكم لطرق الإمداد وخطوط النقل والمواصلات، لذلك كانت استعادة خاركيف هدفا أساسيا للأوكران الذين شنوا هجوما مضادا مباغتا وسريعا تقدمت خلاله القوات الأوكرانية إلى داخل خاركيف واستعادت مساحات كبيرة من الأراضى من الروس.
المرة الثانية لانتهاج القوات الأوكرانية لتكتيك الحرب الخاطفة كان بقيامها مؤخرًا بعملية الاجتياح الناجحة لمنطقة كورسك، مباغتة روسيا بهجوم مفاجئ خاطف توغلت خلاله القوات الأوكرانية فى داخل الأراضى الروسية واحتلت مساحات كبيرة من منطقة كورسك، فى أول غزو تتعرض له روسيا منذ اجتياح الجيوش الألمانية لها خلال الحرب العالمية الثانية.
القوات الأوكرانية توغلت فى تقدمها داخل روسيا إلى 35 كم فى عشرة أيام منذ بدء عملية كورسك، وسارعت للتقدم وتعزيز مواقعها إلى أن باتت على مسافة 50 كم من محطة كورسك النووية، وبات القادة الأوكران يلمحون إلى أن المحطة باتت فى مرمى نيرانهم، ولا سيما بعد قيام قواتهم بنسف جسرين رئيسيين على نهر كورسك لمنع وصول أى قوات روسية للمنطقة.
عملية كورسك نجحت إلى حد كبير حتى الآن فى الضغط على الروس ودفعهم لتحويل جزء كبير من قواتهم إلى كورسك، وبالتالى تخفيف الضغط العسكرى الروسى على الجبهة الشرقية من أوكرانيا، كما أقنعت الولايات المتحدة وحلف الناتو بمنح أوكرانيا المزيد من الأسلحة الهجومية النوعية مع تلاشى المخاوف من تجاوز الخطوط الروسية الحمراء.
يبدو أن تقديرات المخططين السياسيين فى الغرب وأوكرانيا تقوم على أن اختراق القوات الأوكرانية للحدود الروسية والتوغل داخل الأراضى الروسية، ثم قيام القوات الأوكرانية بالصمود والبقاء لأطول فترة ممكنة داخل روسيا يمكن أن يسرع من وتيرة إنهاء الحرب إذا تم استغلال هذا الملف على طاولة المفاوضات بحيث يتيح لأوكرانيا ورقة تفاوضية قوية للمساومة مع روسيا.
• • •
مجمل القول أن ما حدث فى عملية كورسك لا يليق بالجيش الروسى الذى يعد أحد أقوى وأكبر الجيوش فى العالم، وهو يكشف عن تقصير استخباراتى جسيم، وسوء تقدير من القيادات العسكرية الروسية التى باغتها الهجوم الأوكرانى والذى تسبب ولا شك فى حرج كبير للقيادة السياسية الروسية.
الهجوم الأوكرانى على كورسك الذى يحمل بالكامل بصمات حلف الناتو فى الاستطلاع والمعلومات والتخطيط وحتى التنفيذ الذى تم خلاله الاستعانة بالعديد من الضباط والمقاتلين المرتزقة من الولايات المتحدة وغرب أوروبا، تحدثت عنه بفخر إحدى الصحف الألمانية عن عودة الدبابات الألمانية إلى الأراضى الروسية بعد أكثر من ثمانين عاما.
الأمر الذى دفع نائب رئيس مجلس الأمن الروسى، ديميترى مدفيديف، لتصريح حاد محذرا فيه ألمانيا ودول حلف الناتو المنخرطة فى مساندة أوكرانيا، بأن الدبابات الروسية يمكنها الوصول أيضا إلى ساحة الرايخستاج فى برلين، مذكرا الألمان بسقوط عاصمتهم فى قبضة القوات الروسية عام 1945.
• • •
عملية كورسك تمثل منعطفا جديدا فى مسار الحرب الروسية الأوكرانية، وقد بينت بما لا يدع مجالا للشك حتمية إعادة نظر روسيا فى استراتيجيتها وأسلوب إدارة الحرب الأوكرانية، كما بينت أن الولايات المتحدة وحلف الناتو ما زالت على نهجها الثابت المعادى لروسيا رغم ما تعلنه سياسيا وإعلاميا من أنها تساعد أوكرانيا بضوابط وقيود فى إمدادها بالسلاح، لكن الواقع ينفى ذلك تماما.
فى الوقت الذى تتحرك فيها روسيا ببطء وبحذر شديد فى كل ما يتعلق بالأزمة الأوكرانية، نجد الولايات المتحدة ودول حلف الناتو على العكس تتحرك بسرعة وجرأة لتفعل كل ما بوسعها على كل الأصعدة المناوئة والمضادة لروسيا لإجهاض أى نصر وإفشال أى أهداف قد تحققها روسيا فى الحرب الأوكرانية، حتى لو كان بالدخول فى مرحلة جديدة من الصراع بأدوات حرب أكثر فتكا ودمارا مما سبق.