تقدم لنا نظرية البريستو إجابة مقبولة للسؤال الحائر: لماذا لم يحدث فى مصر ما حدث فى تونس؟
أى لماذا لم يخرج الناس بالآلاف فى الشوارع ثائرين ضد الفساد والظلم والتفاوت الحاد فى توزيع الثروة؟
تقوم نظرية البريستو على التوازن بين متضادين هما الضغط والتنفيس، فيتم إحكام الغطاء على «الطبخة» بطريقة لا تسمح بتسرب البخار خارج الحلّة إلا عبر ثقب ضيق، يعلن بصفارة إنذار أن الطبخة استوت، وأن على الطاهى أن يرفعها الآن قبل أن تحترق، وهو ما غاب عن طاهى تونس، الذى أمعن فى الفساد والقهر والسلب والنهب، دون أن يفتح نافذة واحدة يصرخ منها الناس، مكتفيا بالضغط عليهم طوال الوقت، ولذا، فإنه حين حانت اللحظة، كان الانفجار مدويا وعارما، بقدر ما كان الكبت عتيّا وقاسيا.
طهاتنا أيقنوا منذ فترة طويلة أن قدرا من التنفيس مهم كى لا يحدث الانفجار، فأطلقوا حرية الكلام واحتفظوا لأنفسهم بحرية الفعل، وكثيرا ما أدهش أصدقاءنا من العرب الرازخين تحت سياط القهر ذاتها، هذه الحدة فى المعارضة، وهذا الصياح الذى يملأ فضاء المحروسة، فى الصحف وبرامج التوك شو ومظاهرات وسط البلد والاحتجاجات التى يطالب أصحابها بتحسين أحوالهم أو رفع الظلم عنهم، ويتعجبون من «سماحة» النظام الذى أفسح المجال لمعارضيه كى ينتقدوه إلى حد السباب.
هؤلاء فى الحقيقة لم يدركوا حنكة النظام وبعد نظره، ولو أنهم انتبهوا إلى ما قاله الرئيس مبارك فى افتتاح الدورة البرلمانية، أمام نواب يعرف ويعرفون كيف اقتنصوا مقاعدهم، حين سئل عن رأيه فى حكاية البرلمان الموازى: «خلّيهم يتسلوا»، لأدركوا أبعاد اللعبة ومواقع أطرافها، ولعرفوا أن للصياح والنواح والغضب المحسوب دوره فى إنضاج الطبخة، كما أن فى اتساع رقعة الفساد واستفادة قطاعات واسعة منه دورا فى حفظ مكوناتها.
لكن ذلك لا يعنى أن ما جرى هناك لن يجرى هنا، ولعلك تلاحظ أن بخار الضغط المتصاعد من ثقب البريستو تزايد إلى حد الهياج، وأن صفارات الإنذار تتوالى، وأن الثقب ذاته يتسع وصوت نذيره يعلو معلنا أن الطبخة أوشكت على الاحتراق، وعلى الطاهى أن يدرك ــ الآن وهنا ــ أن حيله القديمة لن تجدى، وأن آلية الضغط والتنفيس باتت قديمة، وأن عليه أن يتخذ إجراءات أكثر عدالة وشفافية، وأن يستجيب لمطالب الناس وأشواقها فى التغيير دون لف أو دوران.
عليه أن يدرك قبل فوات الأوان، أنه إن مرّ، فإن وريثه لن يمر.